للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(١٣) من هيلانة إلى أراسم في ٢٨ مارس سنة -١٨٥
خرجتُ بالأمس للتنزه أنا والسيدة وارنجتون راكبتين عجلة مكشوفة، سلكت
بنا المهيع الذي يبتدئ من بنزانس ويلتف حول الخليج المسمى بخليج الجبل في شكل
نصف دائرة عظيمة كحذاء الفرس، فما أبهج ما رأيته وأجمله! ! لاتحسبن أن أول
شيء أمال ذهني ونبه فكري هو البحر الزاخر أو شواطئه المرصعة بالصخور،
أو حركة أمواجه المتلاطمة المتعاقبة في تلاشيها على رمل الطريق، كلا إن الذي
استوقف نظري هو قطعة من الصوان يعلوها بناء كالدير أو القلعة الحصينة،
يسميها الإنكليز بالجبل، وهي بارزة على يسار بطن الخليج، ولذلك نسب إليها فقيل
له خليج الجبل، أخالني رأيت هذه الضخرة بما فوقها من الأبراج الصغيرة في منام
لي، أو في وقعة من وقعات الكابوس عليّ.
سألت السيدة وارنجتون بصوت متقطع من الرعشة: مَن هذا الشبح الحجري
فأجابتني مترددة لِمَا رأته من حالتي بقولها: هذا هو جبل القديس ميكائيل عندنا،
فلما سمعت منها هذه الكلمة أحسست بأن كل مافي جسمي من الدم قد جزر عائدًا إلى
قلبي، فلَمَحت ما صرتُ إليه من الاضطراب، وعَرَضت عليّ الرجوع إلى المنزل،
فصحتُ: كلا، إنه لا بد لي من الذهاب إليه، وقد اضطررنا من أجل ذلك إلى
الطواف حول الخليج والذهاب إلى مرازيون.
لما أن صرنا حِذاء الجبل كان البحر في إبان جزره، وكانت هذه الصخرة
الصوانية على شكل شبه جزيرة لانحسار الماء عن بعض جهاتها، بعد أن كانت
جزيرة كاملة بعض ساعات النهار، سلكنا للوصول إليها شِعبًا رمليًّا موحلاً يكتنفه
من الجانبين قطع من الصخور مغطاة بالطحلب والعلعي [١] المبللة، وتيسر لنا به أن
نجتاز البحر يبسًا، فبما كان يعرض لنا من تلك القطع الصخرية كنا كأننا نمشي بين
أطلال، وكنت كلما جدّ بنا السير أزداد دهشة وارتياعًا لتشابه ذينك الجبلين
المُتَّحِدي الاسم، فإن هذه الصخرة بما فوقها من البناء، وما حولها من البحر تكاد
تكون عين التي في بلادنا، إلا أن ذاك أسعد حظًّا من هذا، فإنه لم يدنس باتخاذه
سجنًا في زمن من الأزمان.
أفضى بنا المسير بعد حين إلى سفح ذلك الجبل، فإذا حوله لفيف من مساكن
حقيرة يتألف من مجموعها قرية للصيادين والملاحين، فوقفنا تشرف علينا الصخرة
الصوانية من سُموها المُريع، ثم اقتحمناها فاضطررنا في ذلك إلى الصعود على
شعب، بل سلم نُحِتت درجاته في الصخرة، وقد انتهى الأمر بالسيدة وارنجتون إلى
أن ضاقت أنفاسها، وطفقت تلهث من شدة التعب، فدعوتها إلى الاستراحة على
كتلة من كتل صخرية كانت تعترضنا في طريقنا، ويظهر أنها خرجت من باطن
الجبل بسبب انفجار ناري، فما كان أسرع ما أجابت، وجلسنا طائفة من الزمن لا
ننبس بكلمة لما أُدهشنا من مشهد العظم والخراب، فكان البحر محدقًا بنا، وذلك
البناء القاتم الذي هو من آثار القرون الوسطى، فوقفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا
أطلال من الصخر يغطي جزءًا من عُريها بعض الأعشاب البرية، وقد رأيت على
مافي هذا المكان من المُحول زهرة زرقاء نابتة في صدوع الصخرعلى طبقة خفيفة
من بقايا الأعشاب المتعفنة، فقطعتها على ذكراك لعلها تكون بشرى السعادة، كنت
إلى هذه الساعة التي رأيت فيها جبل القديس ميكائيل مترددة في اختيار البقعة التي
اتخذها متبوأ وسكنًا، أما الآن فقد استقر لمجرد مشاهدته رأيي وزال ترددي، فكأنما
يوجد شيء من السحر في أسماء الأمكنة وأشكالها تغلب على فكري، فحملني على
ترجيح الإقامة بهذا المحل، على أنه لا بدع ولا سحر، أليس هاتان الصخرتان
اللتان تتراءيان وتتناغيان مع فصل المحيط بينهما، وهما جبلا القديس ميكائيل في
إنكلترا وفرنسا أختين متشابهتين في جميع الصفات والأوضاع، إن أول هذين
الحصنين وهو حصن الإنكليز كان حظه من كر السنين عليه التَّرك والإغفال، أما
ثانيهما هو حصننا فإن له صراخًا يصل إلى كبد السماء دالاًّ على استبشاع حالته
وأمله في الخلاص منها ٠
ذهبنا في نفس ذلك اليوم لزيارة المنزل الذي أوصاني الدكتور وارنجتون
باستئجاره، وقد علمت بأن مؤسسي قرية مرازيون التي هو فيها هم اليهود الذين
كانوا يتجرون فيها بالقصدير قبل ميلاد المسيح بزمن مديد، وإني لفي شك من وجود
كثير من ذريتهم الآن في هذه القرية؛ فإنه لم يبق من دلائل وجودهم في هذه الجهات
إلا اسم واحد وهو اميرسيون قد ارتاحت نفسي له لأني تذكرت به فرنسا، تتألف
تلك القرية من جملة مساكن جديدة، على بعضها مسحة من طلاوة المدنية الإنكليزية
وهي قائمة من الخليج على شاطئه المقابل لجبل القديس ميكائيل الذي يتراءى معها
على بعد، فلها في ذلك منظر ذو بهاء، وجلال محاسنه أن هذا الخليج - وهو تلك
القطعة الجميلة من الماء التي تكتنفها الرمال المتقطعة بالصخور خصوصًا ما هو منها
جهة الشاطئ المقابل للمنازل- تكثر فيه حركات الأمواج المعتدلة التي تُسَكِّن آلام
النفس وتُخفض من برحائها.
بقي عليّ الآن أن أحدثك عن المنزل فأقول: إنه لا ينقصه شيء من المتانة
والرصانة؛ لأنه كله مبنيٌ بالصوَّان الذي يكثر في هذه الجهة دون غيره، ولما
كانت مادته شديدة الصلابة تتعاصى على النقش، اعتاد البنَّاؤون على الاكتفاء في
إعداده للبناء بترقيق قطعه، ومن أجل ذلك كانت ظهور جدران المساكن في الجملة
خشنة وغير مستوية، وطريقة البناء في الداخل تخالف كذلك طريقتنا فيه مخالفةً
عظيمة؛ لأنهم لا يقتصرون هنا على فصل البيوت بعضها عن بعض بحيث لا
تتلاصق، بل إنهم يفصلون بين الغرف أيضًا بحيث تكون المعيشة عزلة تامة.
ذلك البيت القائم على ربوة رملية قاحلة، فلذلك أخشى أن يكون معرضًا
لهبوب الرياح الشديدة الآتية من البحر، لكن الناس يؤكدون لي أن هذه الرياح التي
تهب من هذه الجهة تكون فاترة صحية في جميع فصول السنة، أما الأثاث فهو في
غاية البساطة والملاءمة لحالتي، وأكثر ما دهشت له في هذا البيت هو أني وجدت في
الطبقة العليا منه غرفتين منفصلة إحداهما عن الأخرى تمام الانفصال، ليس لهما في
ذاتهما شيء يمتازان به امتيازًا ظاهرًا لكنهما على هذه البساطة قد أحسن البنَّاء
وضعهما، فكان لهما أجمل منظر وأحسن موقع تشرق عليه الشمس، فالضوء يسبح
فيهما بلا حجاب يعترضه؛ لأن نوافذهما لما كانت تتلقاه بالتكريم تكاد تكون مجردة من
الستائر، وهذا منها نوع من الأدب والترحيب بلسان الحال، فكأنها تقول له: (تفضل
فهذا محلك لا يمنعك منه مانع) نعم إن عليها من الخارج بعض قضبان من الحديد،
انقبض قلبي لرؤيتها أول مرة، إلا أن هذا الانفعال السيئ قد زال عندما علمت بأن
هذا المحل هو حجرة لأولاد، وأن هذه القضبان لم توضع إلا لمنع ما عساه يقع من الحوادث التي تكثر عادة من الأطفال بما يلازم سنهم من التهوروالجهل بالخطر,
فهي إذن وسيلة من وسائل التحفظ، لاعلامة على الأَسْر، في إحدى هاتين الغرفتين
ينام الأطفال، وفي الأخرى يلعبون في النهار إذا كان الجوُّ باردًا، أو السماء ممطرة
وقد أكد لي الناس هنا أن هاتين الحجرتين يوجد لهما نظيرتان في كل بيت من
بيوت الإنكليز التامة المنافع والمرافق.
لا أنكر عليك أن هذا الأمر قد أثَّر في نفسي، فإن معظم الدورعندنا في باريس
تامة البيوت والغرف والمرافق اللازمة، وهي غرفة الأكل وقاعة الاستقبال،
وحجرة النوم والمكتب ومخدع الخلوة، وغيرها مما يطابق عادات الرجل الدنيوي
وأهواء المرأة المتربية، فلم يُنس فيها إلا ما يلزم لشخص واحد، ألا وهو
الطفل.
الطفل عندنا بسبب اضطراره إلى ملازمة الكبار في معيشتهم وتقضيته الأيام
والليالي في غرفة واحدة مع والدته العصبية الرقيقة المزاج، ووالده المثقل بالأعمال
لابد أن يكون ضيفًا مقلقًا لغيره، وأسيرًا كاسف البال في نفسه، فإنه لا مندوحة من
أن تمتد يده إلى الأثاث فتقطعه، وتتناول الكتب فتمزقها، والآنية الصينية فتكسرها،
ويجر عليه هذا النزق وما ينشأ عنه من الإتلاف الخفيف توبيخًا مستمرًّا، فيقرعه
والداه ويعاقبانه على نشاطه وسروره ولغطه، أعني على كونه طفلاً.
وليس هذا كل ما يلاقيه عندنا، فإنه أحيانًا قد يطرد من مسكن أبويه لضيق
المحل، فلا يجد له مأوى سوى فناء المنزل، وأنت تدري ماهي أفنية البيوت في
معظم المدن الكبيرة، إنها ليست إلا جحور ضباب، قد فهم الإنكليز مقتضيات
المعيشة المنزلية من حيث سكنى الأولاد أحسن مما فهمناها بكثير، فهم يعتبرون
المولود عندهم شخصًا مستقلاًّ، فيفردونه بحجرة قائمة بذاتها.
إلى الآن لم أصف لك شيئًا من بستان البيت على أنه هو الذي أخذت بهجته
ونضارته بلُبِّي، ليس لهذا البستان سور من البناء وإنما هو محاط بسياج من النبات
تمطره في شهر يونية على ما يقال شجيرات الرتم الشوكية [٢] ذهبًا من أزهارها
العسجدية، من أجل أن تتصور جمال هذا البستان مَثِّل لنفسك نحو أكرين [٣] أرضًا
تغطيها جميعًا شجيرات الورد وعنب الثعلب وغيرها من الأشجار الصغيرة، وإنما
كان مافي هذا البستان شجيرات؛ لأن أرضه رملية ومجاورة للبحر، فهي لا تصلح
للأشجار الكبيرة، ولكن قد أنشأت تتفتح بين أعشابه العطرية عيون بعض أزهاره
البنفسجية، فكيف يكون جماله بعد خمسة أو ستة أسابيع إذا كساه الربيع - بلا
حساب - ما لديه من حُلل البهاء والنضارة؟
قد استأجرت المنزل وسأسكنه في الأسبوع المقبل، أما الآن فأنا ساكنة عند
السيدة وارنجتون التي تحوطني بأُنسها الدائم وكرمها الغامر، كل ما أنا فيه من
وسائل النعيم الآن يؤلمني , وأوبخ نفسي عليه عندما أذكر سجنك وما أنت فيه من
الضيق والألم.
أنا متطلعة لأخبارك أيها الحبيب، فأرجو أن توافيني بشيء منها، فهل خفَّت
عليك معيشة السجن بسبب تغيير المحل، أو زادت ثقلاً، أسألك بالله أن تصدقني
الحديث، ولا تخفِ عني منه شيئًا، وفي الختام أُقَبِّلُك من وراء تلك البحار التي
تحول بيني وبينك، لكنها لم تفرق بين قلبينا. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))