للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية

(الحُجَّاب)
ينبغي أن يعين للمحاكم الشرعية حجاب يقرءون ويكتبون، ويستطيعون أن
يحفظوا النظام إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الجلسات على ما هو معروف في الدوائر
القضائية الأخرى، وهذا مما يطلبه القضاة ويلحون فيه.
(الأعمال الكتابية)
نبتدئ منها بالعقود والإشهادات وما يتبعها؛ لأن الكلام عليها لا يطول، على
أنها من أهم أعمال هذه المحاكم، خصوصًا إذا رأت الحكومة فيما بعد أن تضع في
قوانينها أنه لا يقبل سند على من لا يعرف القراءة والكتابة، إلا إذا كان ذلك السند
محررًا بحضرة مأمور قضائي، والمحاكم الشرعية هي الأقرب والأوثق عند الناس
في مثل هذه الشهادات، على أن هذا النوع ليس بقليل الآن في دوائرها.
حفظ كُتَّاب هذه المحاكم ألفاظًا معينة يضعونها في أساليب معتلة مع تكرار بارد
يعسر معه الفهم، ويسأم منه الذهن، وقد عمت شكوى جميع القضاة من ذلك، حتى
إن سماحة قاضي مصر ذكر فيما طلب إدخاله من الإصلاح وتفضل بإرساله إليّ
(الاختصارفي الشهادات والمرافعات إلى الحد الذي لا يُخل بالمطلوب شرعًا) فإن
ذلك أمر يحتاج إلى وضع قانون وذلك ناشئ من جهل الكتبة وظنهم أن تلك الألفاظ
في تلك الأساليب السمجة لا بد منها شرعًا ولا يصح العقد بدونها، وكان يوافقهم على
هذا الزعم بعض القضاة، وربما لا نعدم من بقاياهم اليوم من يكون على رأيهم.
لهؤلاء الكُتَّاب عناية بتعريف الأشخاص من متعاقدين وشهود وجيران في
الحدود، يضيق لها الصدر ويضل فيها الفهم، ويحملون المُشهد على ذكر جد جاره،
وقد يكون ذلك الجار ممن لا يعرف أباه فضلاً عن جده ويضطرونه إلى الكذب،
مع أن المقصد من تعريف الشخص تمييزه، ويكفي فيه ذكر اللقب المشتهر به
المعروف به في بلده أو محلته بحيث لا يشركه غيره في مجموع الاسم واللقب
والصنعة ومحل الإقامة، ومع أن الشهرة تغني عن ذكر النسب فإنهم يعرفون الجناب
الخديوي بذكر نسبه إلى جده، ويعرفون مدير الجهة أو محافظها بأبيه وجده، مع أنه
سبق من المديرين مَن ربما لا يكون جده معروفًا لأحد من الناس في هذه البلاد ولا له
نفسه، وعندنا كثير من أبناء الجراكسه والأحباش الذين جيء بهم وهم صغار لا
يعرفون آباءهم فضلاً عن أجدادهم، فذلك الجد أو الأب المجهول كيف يكون مميزًا
لهذا الرجل المعروف؟ على أن الناس يضطرون في كثير من الأحيان إلى أن
يخترعوا أسماء ليرضوا جهل الكاتب ويتخلصوا من حمقه.
يستشهدون على وكالة ناظر المالية عن الجناب الخديوي، ووكالة المدير عن
ناظر المالية في بيع أطيان الميري الحرة بشاهدين: أحدهما معاون في مديرية،
والآخر كاتب فيها، كأن هذين الشاهدين حضرا عقدي الوكالتين، ولا يكتفون
بالأوامر الصادرة في ذلك، ويعدونها من المؤكدات فقط، وقد يتكرر عقدان في
صحيفة واحدة أو صحيفتين متواليتين، ويذكر في كل منهما تفصيل التعريف
والشهادة علي هذا التوكيل ونحو ذلك في بيع العقار، وفي الوقف يأتون في تفصيل
المساحات والحدود بما لا يمكن معه فهم العقد، ويأتون في شرائط الوقف وفي
صيغته بأمور ألفوها يرتبك في فهمها كل من قرأها، ومن هذا الهذيان يتولد أغلب
المشاكل التي تحدث في الأوقاف ودعاوي الاستحقاق.
من السخافات التي ألفوها أن يذكروا في حجج إنشاء العمارة قولهم: (بعد أن ملك
فلان أرض كذا عنَّ له فعل مايأتي ذكره، وهو أنه أحضر المون المتقنة، والآلات
المحكمة من طين وجير وجبس وأخشاب، وما يلزم لذلك من البنَّائين
والفعلة والنجارين، وغير ذلك مما يحتاج إليه ويتوقف أمر العمارة وتمامها عليه، مع
ان المنشئ ربما لا يكون أتى بشيء من ذلك، وقد يكون هو الباني بيده إن كان
بناء، وجاء من لوازم البناء بغير الجبس والجير مثلاً، وبني بالطين والرمل، فلو
نازعه منازع بأن هذا البناء ليس هو المذكور في الحجة، واستدل بأن مونته ليست
متقنة؛ وليس فيها جبس ولا جير لرجح عليه في المخاصمة وضاعت العمارة
من يده بحماقة الكاتب.
وقد رأيت إشهادًا بإقامة الجناب الخديوي ناظرًا على وقف في دمياط استغرق
سبع صفحات بالخط الدقيق لو كتب بالخطوط المعتادة استغرق عشرين صفحة أو ما
يزيد على ذلك، ومعظمه من اللغو الذي لا فائدة فيه، ويضر بفهم الكلام.
جاءني رقيم بطريق البوسطة من أحد الأدباء يستغيث بي من تكرار لفظ
(المذكور) و (المذكورة) في عقود المحاكم ومرافعاتها، وعرض لي أن عددت
هذين اللفظين في شهادتين صغيرتين، فوجدتهما تكرّرا سبعًا وعشرين مرة ربما
يحتاج الكلام إلى أربع مرات منها، والباقي لغو لا معنى له.
وأرى أن إصدار الأوامر بالاختصار لايفيد في تطهير المحاكم من هذه السخافة
التي يتبرأ منها الشرع ولغته، بل لا بد من تشكيل لجنة من أهل الشرع العارفين
بطريق التوثيق، وأذكياء الكُتَّاب لتنظر في هذا النوع من التحرير، وتضع رسمًا
لكل نوع من أنواع العقود، وتوزعه النظارة على المحاكم ليحذو الكُتَّاب عليه،
وتُوعِد من خالفه بالتأديب إلى أن يوجد في المحاكم أناس يعرفون اللغة العربية وما
تدل عليه أساليبها الصحيحة من الإلمام بالشريعة.
(ما يكفل السرعة في العمل)
وضعت النظارة قواعد وأنشأت لها قسائم لو اتبعت لم يشك شاكٍ
من تأخرالعمل فيما يطلبه من المحاكم الشرعية، ولكن كثيرًا من المحاكم
يغفلها فتستمر الشكوى، وذلك إما لجهل الكاتب بفائدتها، أو تعمد إغفالها لسبب من
الأسباب , ولا تحتاج في الإلزام بها إلا إلى تشديد المراقبة ومداومة التفتيش.
(الدفاتر)
دفاتر المحاكم كثيرة جدًّا، ورأيت أن بعضها لا يُحتاج إليه كيومية الملخص
مع وجود دفتر الفهرست، وكدفتر مواعيد القضايا إن لم يجعل بمنزلة الرول الذي
يوضع أمام القاضي في الجلسة، وأرى أن يُعاد النظر في هذه الدفاتر لتقرير ما يبقى
وإلغاء ما يلغى تخفيفًا للعمل واقتصادًا في الورق والجلد والزمن، وإنما أخص بالذكر
هنا دفترًا أطلب محوه في أقرب وقت وهو دفتر مضابط القضايا الذي تثبت فيه
محاضر الجلسات، ويجب أن يستبدل بمحاضر وملفات على نحو ما هو جارٍ في
الدوائر القضائية الأخرى، وذلك أن هذا الدفتر يحتوي على الدعاوى، وما يحصل
فيها من تأجيل أو شطب، أو مرافعة وشهادات وحكم، ولكن على ضرب من
التشويش لا يُستطاع احتماله.
يأتي المدعي مثلاً، فيذكر في أول صفحة من الدفتر أنه جاء وأُجِّلت الدعوى
لأعذار خصمه، ثم يتلو هذه الدعوى دعاوي أخر، وفي الصفحة الخامسة يذكر أن
الخصمين حضرا، ولم يكن معهما شهود معرفة فأجلت القضية، وبعد عشر
صفحات يذكر شيء من المرافعة، وبعد خمس أخرى يذكر بقيتها، وبعد ست أو
سبع تذكر شهادات، وهكذا، وربما تفرقت أجزاء القضية في أربعة دفاتر أو أكثر،
وبقي النظر فيها من سنة إلى سنة أخرى، فإذا صدر فيها حكم ابتدائي، ودفع
المحكوم عليه احتيج إلى نسخ هذه الأجزاء وجمعها من صفحات الدفاتر لترسل إلى
محكمة الدفع، وإذا احتاج أحد الخصمين لأخذ صورة المرافعة تجشم الكاتب مشقة
التقاط هذه الأبعاض من وجوه الصحائف في جميع تلك الدفاتر, خصوصًا ولا
فهرست للقضايا حتى يسهل الاهتداء إليها، وإذا أريد التفتيش والبحث في قضية
ضاع الوقت في تقليب الأوراق.
وما رأيت قاضيًا من قضاة المديريات والمراكز إلا وهو يشكو من تحرير
المحاضر بهذه الطريقة، فأعيد طلبي لمحو مضبطة الدعاوى، وإبدالها بملفات
تحتوي على جميع المحاضر والأوراق جملةً , لكل قضية على حدتها ملف، فإذا
انتهت القضية حفظت مع أمثالها من قضايا السنة في محافظ، وأودعت الدفترخانة
على ماهو معروف، فإذا استؤنفت القضية أُرسل ملف الدعوى بجميع ما فيه من
الأوراق إلى محكمة الدفع، ولا بد أن يكون لمحاكم الدفع محاضر على هذا النحو.
ثم إن دفتر السجل يوجد فيه نوع من تقسيم الأنواع وتمييزها، وإن
كانت تحتاج إلى فضل تمييز، أما مضابط الإشهادات، فتثبت فيها الأنواع مختلطة
كأنها كشكول، ومن اللازم تمييز الأنواع فيها على نحو ما في السجل، ثم وضع
فهرست في أول كل دفتر يحتوي على بيان ما فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))