للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب الحاضرة
تواترت البرقيات بتوالي انكسار الإنكليز وخذلانهم في جميع المواقع، وكان
أشدها وقعًا وأكثرها إيلامًا انهزام الجنرال السير بوللر القائد العام بجيشه بخسارة
عظيمة جدًّا، ولهذا استبدلت الحكومة الإنكليزية به اللورد روبرتس قائد جيوش الهند
وجعل لورد الخرطوم كتشنر (باشا) رئيس أركان حربه بدلاً من هنتر (باشا)
المحصور في مدينة لاديسميث.
وقد ذكرنا في (المنار) الماضي أن لانكسار الإنكليز سببين: أحدهما الجهل
بجغرافية البلاد التي يحاربون فيها، وثانيها الجهل بقوة عدوهم، وههنا نذكر كلمات
لأحد العارفين بالسياسة من رجال الإنكليز الذين جاءوا مصر في هذه الأيام، قال:
إن البويرس شعروا منذ سنين بأن الإنكليز ستلجئهم إلى الحرب في يوم من
الأيام، فطفقوا يستعدون لذلك بكل ما في طاقتهم، فخصصوا جزءًا كبيرًا من المال له،
وبالغوا في إخفاء عملهم حتى عن قومهم، فأنشأوا معامل السلاح (الترسانات)
في الغابات البعيدة عن العمران في قلل الجبال، وكانوا إذا جاءهم سياح الإنكليز
يطلعونهم على المعامل العتيقة وما فيها من البواريد القديمة من الطراز المعروف عند
همج أفريقيا وما يقرب منه، وكنا قد اخترعنا مدفعًا أسرع المدافع المستعملة وأبعدها
مرمى، وكان مخترعه يحاول أن يزيده إتقانًا، ولذلك لم يعمل منه شيء ما عدا
النموذج، ولما زار إمبراطور ألمانيا بلادنا الزيارة التي قبل هذه الأخيرة رأى
نموذج هذا المدفع فأعجب به فطلب صورته فقيل له: إنه لم يتم إتقانه، فقال: إنه
ليعجبني على ما هو الآن، فأجيب طلبه وعندما عاد إلى بلاده أمر بالإكثار من هذا
المدفع، واشترى البويرس منه عددًا صالحًا من ألمانيا، ولذلك ظهر أن مدافعهم أبعد
من مدافعنا مرمى وأسرع من حيث يظن قومنا أنه لا يوجد عندهم إلا المدافع القديمة
التي لا تقارب مما عندنا {وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: ٢٦)
بل صدق علينا أننا قُتلنا بسلاحنا، وأما التعليم العسكري فقد عمموه تعميمًا حتى في
النساء مستعينين عليه بضباط الألمان، فإن أكثر من خرج من الجيش الألماني من
هؤلاء تيمم الترانسفال واشتغل بتعليم أهلها فنون المكافحة والنزال.
قال الإنكليزي لمحدثه: فقد جمع البويرس بهذا بين النظام وبين القوة الطبيعية،
والشجاعة والجلد، والصبر على التعب والسغب، وهذا الجد والصبر لا يوجد
عندنا إلا في الضباط فإنهم تربوا أحسن تربية، وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا
مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً،
وقد اغتر تشمبرلن بالظاهر، وغرّ حكومته حيث كان يعتقد أن ثلاثين ألفًا كافية
لتدويخ الترانسفال بل لتدميرها، أما أنا فإنني أعتقد أن العاقبة سوأى إذا لم نجهز
الجيش الكافي، وأقله في اعتقادي مائة وخمسون ألفًا، وإن هذا علينا ليَسير. اهـ