للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(١٩) من أراسم إلى هيلانة في أول مايو سنة -١٨٥
تسألينني في خاتمة مكتوبك عما نسمي به ولدنا، نسميه (أميل) إذا كان ذكرًا؛
إحياءً لذكر ذلك الكتاب [١] الذي كنت أقرأه لك في مطالعاتنا الليلية، فكان في نفسك
مبعث الطرب والإعجاب حتى إني كنت أكف عن القراءة حينًا بعد حين لأشاهد
وجهك في ضوء المصباح، فأتبين فيه ذلك، ياله من عهد تحفظه ذاكرتي لتلك الأيام
السعيدة.
من البدع التي جرت بها ألسنة الأكياس [٢] من الناس منذ حين سبهم جان جاك
روسو واحتقارهم إياه، فويل لهم مما يرمون به قبر ذلك الكاتب العظيم من نبال
اللعن والقدح، وإنهم لجديرون بالرثاء لعقولهم، لم يكن ذنب الرجل الكبير سوى أنه
خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتقادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على
الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجَّه خطابه إلى الوالدات والأطفال، وهوأمر هداه
إليه ما فُطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة، على أننا لو جردنا كتاب (أميل) مما
فيه من العبارات الفصيحة التي امتلات بها صحفه، والشتائم الشديدة المنبعثة
عن وجدان كبر عليه احتمال الضيم والهوان، والحماسة في نصرة الفضيلة،
والانفعالات الشريفة التي كانت تعرو مؤلفه المؤمن بالله دون وحيه لأنبيائه عند
نظره في بدائع الصنع ومحاسن الكون- لوجردنا الكتاب من كل ذلك فما الذي يبقى
لنا فيه؟ يرجع كل ما قاله المؤلف في الطريقة التي أراد وضعها للتربية إلى هذه
القاعدة، وهي السير علي مقتضى الفطرة ومعاملة الأطفال معاملة العقلاء، نسلم له
ما يقول، ونحن نرى أن اتباع الفطرة في كل ما تدعو إليه يفضي بالطفل إلى حالة
التوحش والهمجية، لكن ذلك الحكيم على عدم إيمانه بالوحي كان يعتقد أن أصل
الكمال في الفطرة والنقص إنما يعرض لها من فساد التربية، أما كلامه في خطاب
العقل، فلا شك أنه جدير بأن تصاغ له من أجله أجمل عبارات المدح تنويهًا بفضله،
ولا بدع في أن عَرِف له القرن الثامن عشر قدره بعد إنكاره، فأقام له من الآثار ما
خلد ذكره وأحيا اسمه، لكن العقل من دون جميع قوى الإنسان هو الذي يكون في
طور الطفولية أقلها نموًّا، فكيف إذن يعتمد على هذه القوة الكامنة في إيصال معنى
الخير إلى نفس الطفل.
لروسو فوق ذلك أغاليط أخرى كان يعتقد صحتها، وكان من شأنها أن تعوقنا
عن التقدم في أخلاقنا وأوضاعنا، من هذه الأغاليط: اعتقاده بوجوب الرضوخ لما
للجمهور الأغلب من السلطة المطلقة، فإنا نجده في كتابه المسمى (بالعقد
الاجتماعي) قد انتصر للحكومة فيما تدعيه لنفسها من حق تربية الأمة بما
أقامه عليه من البراهين.
ألا أُبين لك كيف كان نفع روسو للأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار
لهم والدفاع عن حقوقهم؟ كان ذلك بما ألقته تلك الكتب في نفوس الفرنساويين من
بذور الثورة وهيأتها به لها ٠
لم يُقدِّر الناس ما نشأ عن هذه الحادثة الكبرى في نظام الأسرة (العائلة) من
ضروب التغير حق قدره، فإنها قد خففت من ثقل الولاية الأبوية تخفيفًا عجيبًا على
غير علم من الناس جميعًا؛ لأن المؤرخين قلما يلتفتون إلى ما يحصل في البيوت
من تهذيب الأخلاق وصلاح العادات، فلم يكد رجال الثورتين اللتين حدثتا في
سنتي ١٧٨٩و ١٧٩٢ يدركون ما كان يعتور تلك الأخلاق والعادات البيتية من
الاستحالة، على قربها منهم وسهولة ملاحظتها عليهم، ذلك لأنه ليس في وسع أحد أن
يلاحظ أعمال جميع الناس، فإذا أريد الوقوف على أثر أنواع هذه الاستحالة
وصنوف ذلك التغير وجب الرجوع إلى ما كُتب من السِّيَر في أواخر القرن السابع
عشر، أو في أوائل القرن الثامن عشر، هنالك يُرى ما كان بين الزوج وزوجته،
والوالدة وأولادها من التكلف في العشرة والمقاسحة [*] والمجافاة في المعاملة، نعم إن
قولي هذا خاص بأهل البيوتات؛ لأننا لا نعلم شيئًا من أحوال الطبقات الأخرى،
لكن هؤلاء لا بد أنهم كانوا يحتذون مثال سراة الأمة وزعماء الدولة.
كان البيت في ذلك العهد مؤسسًا على إحدى الوصايا العشر التي وصى الله
سبحانه بها موسى (عليه السلام) وهي (أكرم أباك وأمك) فلم يوصِ موسى أبدًا
بحبهما.
كانت الزوجة في الغالب تدعو زوجها سيدًا وهو يدعوها سيدة، فكان تخاطبهما
باسميهما مع كونه هو لذة العشرة والاختلاط لا يكاد يقع منهما في حضرة الأجانب،
فالثورة هي التي أدخلت في البيوت عادة التخاطب بضمير المفرد، وسوّت بين الولد
البكر ومن يتلونه من إخوته في الحقوق، فاجتثت بذلك أصول التباين والاختلاف،
وأعلت من شأن المرأة، ورفعت من قدرها كما وثّقت ما يربطها بالرجل من عقدة
النكاح، وأصبح البيت بحكم الشؤون ومجرى الحوادث مرجعًا لأصداء المحاورات
والمناقشات في المصالح العامة، وصار صوت الرجل وزوجته في محادثتهما أخلص
وأشد مما كان قبل، كان للكنيسة في الطفل من الحقوق إلى وقت قيام الثورة في سنة
١٧٨٩م أكثر مما كان لأهله فيه، فإن البيت كان قد استعار من الدير ما فيه من
صلابة المعاملة الباردة بسبب أن الوالدة في الغالب كانت تربى فيه، لا أعني بذلك
أن الأم ما كانت تحب أولادها قبل الثورة، وأعوذ بالله أن يخطر هذا بفكري،
ولكني مع اعتقادي حبها إياهم، أعتقد اعتقادًا ثابتًا أن الثورة قد ساعدت على
تخليص محبات القلوب من قيود التكلف، فكما أن منشأ جميع الحركات العظمى
للأرض هو ما في باطنها من النار، كذلك منشأ حوادث الإنسان الكبرى هو ما في
قلبه من حب.
ذلك شأن الإنسان في جميع الأزمان، فمن حياته في الهند حيث كان الطفل لا
يعتبر إلا برعومًا [٣] من نبات قبيلته، وفي رومة التي كان الوالد فيها يملك على ولده
حق حياته وموته إلى أن صار إلى هذه المجتمعات الحديثة التي كاد يكون للطفل فيها
وجود مستقل، قد رقيت الأسرة في أطوار وجودها الأصلية جميع معارج الحرية،
فلا بد في تغيير شكل الحكومة وإصلاحها من تغيير معنى الأبوة أيضًا ورده إلى
حده.
أطول جميع الثورات بقاء وأخلدها أثرًا هي التي كان لها من الزمن ما
استحوذت فيه على عقول الناشئين، فالإصلاح الديني مثلاً وهو مذهب البروتستانت
لا يزال حيًّا في ألمانيا وسويسره وهولانده وإنكلترا؛ لأن رجاله في هذه البلدان
وفي غيرها أسعدَهم الحظ بتأسيس مدارس فيها لتربية الأحداث علي أصولها
وعقائدها، أما الثورة الفرنساوية فإنها علي العكس من ذلك قد أعوز رجالها الزمن
لتنفيذ مقاصدهم؛ لأنهم كانوا قد اختطوا على عجل وهم في مهب رياح الفتنة خطة
مُثلى للتعليم العام، لكن أعاصير الحوادث قد دافعتهم، فحيل بينهم وبين ما كانوا
يقصدون، لما وضعت الطريقة التي نجري عليها الآن في التربية كانت نيران الفتنة
قد خمدت، ومراجل أفكار العصيان قد سكنت، فعهد إلى رجال الحكومة النيابية
الذين حكموا على الثائرين من رصفائهم بالقتل - حَكَم سيسيرون على كاتيلينا
وأشياعه [٤] بتجديد ما اندثر من التعاليم القديمة، فما لبثت هذه التعاليم أن فاضت
منها على الناس أصول الحكومة الفردية، أي حكومة الاستبداد، وأصبحت القوة
الحاكمة هي مدير المدرسة والأستاذ الأكبر لتعليم الدين، ورئيس الجند الأكبر
والشارع الأكبر، بل الكل الأكبر الذي انحصرت فيه جميع الوظائف، ورجا الناس
من هذا الإله الذي هو من صنعهم أن يضيء عقول الأمة، وأن يصنع لهم علماء وأنصاف علماء، فصار التعليم الابتدائي والثانوي، بل صارت جميع درجات
التعليم محوطة بسياج حصين من القوانين، معاذ الله أن أكون آسفًا على ما أراه من
انتشار العلوم وعموم المعارف، ولكني ضعيف اليقين بتأثير عمل الحكومة إذا كان
الغرض من التعليم هو تربية رجال أحرار، فإنها ماوضعت لذلك، وإن لأعضاء
المجتمع الإنساني وظائف كما لأعضاء الأجسام لا يمكن تغييرها بمجرد توجيه
العزيمة إلى ذلك.
سمعت غيرمرة أن الجهل كان العقبة الكبرى في طريق كمال الحرية، وأنا
موقن بصحة هذه القضية، وسمعت أيضًا ممن قالوها أن الحكومة قد قررت أن يكون
التعليم مجانيًّا وإلزاميًّا، وستكون الأحوال حينئذ على ما يرام، أنا لا أصدق هذا
وأضرب الصين مثلاً لأولئك الذين يرون في دواليب التعليم التي تديرها يد الحكومة
وسيلة لتحرير العقول، يكاد كل رجل في تلك المملكة يعرف القراءة والكتابة،
ففيها من المدارس الابتدائية والثانوية وطرق الامتحان ما يفوق الحصر، والصينيون
هم الذين اخترعوا فن الطباعة، وهو أكثر الفنون اليدوية أثرًا في قلب شؤون العالم،
وذلك قبل أن يُعرف في أوربا بخمسمائة عام، فماذا كانت النتيجة؟ أنا لا أزيد عنك
علمًا بها.
لم يكن من التعليم الذي كانت الأساتذة تفيضه على الناس إلا أن أتقن تحجير
الأوضاع الاجتماعية وجعلها أصلب مما كانت، كذلك يكون الشأن عند جميع الأمم
التي يكون الغرض من التربية فيها إيجاد رعايا للحكومة في القالب الذي تريده،
ولوشئت لذكرت أمة أوروبية ليس بينها وبين الصين من هذه الجهة كبير فرق، فإن
التعليم الابتدائي فيها يثبت كل يوم في نفوس الأطفال خلق الانقياد الأعمى بسبب
تداخل السلطتين الدينية والسياسية فيه، المعلم في هذه الحالة هو نائب الحاكم الجائر،
ألم تري أن دينيس [٥] لما خلع من الملك اشتغل بوظيفة مدير مدرسة؟
((يتبع بمقال تالٍ))