للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بهتان عظيم [*]
رمى بعض السفهاء سهمًا فأصاب أمته وملته، فحملنا ذلك على كتابة التذكرة،
ورأينا أن نفتتحها بنبذة بليغة جاءت في العروة الوثقى الشهيرة تصف أخطارها،
حتى كأنها وضعت لها فنقول:
أسف يصهر الجسم، ويذيب الفؤاد، وحسرة تفلذ الأكباد، على قبيل من أمة،
أو شخص منها ذي همة، يستعين الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يرجع إليها
بمنفعة، ثم يوجد له في وجهة عمله من تلك الأمة من ينجم، كقرن المعز، ليفقأ
عين العامل الفاضل، فيقطع عليه أسباب العمل، ويعرقله عن القصد، ليكسب
مدحة باطلة، أو منفعة عاجلة، وإنما مثل من يكون على هذه الصفة في الأمة،
كمرض السكتة في البدن، أو الصرع في الرأس، أو الخبل في العقل، أو الشجي
في الحلق، أو القذى في العين، هؤلاء هم الذين يقعدون بكل صراط يوعدون
ويصدون عن سبيل الله والحق، ويبغونها عوجًا.
لو كان لهؤلاء العضال الطباع (الأعصل المعوج في صلابة) بقية من
الإنسانية أو أثر من العقل، يدركون به ما ينشأ من أعمالهم الجزئية من المضار
الكلية، ويشعرون بهذا الجرم العظيم الذي يدك الرواسي ويهد الشامخات، لذابوا
خجلاً، واستتروا عن الناس بحجاب العدم، وتمنوا لو محيت أسماؤهم من لوح
الوجود، ولكن يظهر من جرأتهم على خطيئتهم أنهم ذهلوا عن أنفسهم، فلا يعلمون
ماذا يعملون. هذا العمل الصغير الذي يجلب على الأمة شراًّ كبيرًا، ويحرمها من
خير عام، ليس في وسع حكيم من البشر أن يحدد درجته من الخسة والسفالة، ولا
في طوعه أن يحيط بكُنْه الفساد الذي ضرب في طبع شخص يقدم على مثله، ولا
توجد كلمة ولا جملة ولا كتاب يفي ببيان حاله سوى أن يقال: خائن ملته ووطنه.
أولئك أشخاص كثيرًا ما يوجدون في الأمم المعتلة، يشبه أن يكون منهم أصحاب
النهج الأعوج [١] والسبيل الملتوي، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،
فيتذقحون ويتجرمون على البرآء (تذقح له وتجرم عليه أي: تجنَّى، وادعى عليه
الجرم باطلاً) ، يقولون كذباً، ويخلقون إفكاً، ويحرفون الكلم عن مواضعه،
يطفئون بذلك نار الحسد، أو يشترون به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم
وويل لهم مما يكسبون.
إن للتجرُّم والتجنى ضروبًا كثيرة، وأشدها ضررًا على الأمم ما كان من ذلك
على علماء الأمة وعقلائها، الذين يسعون في إعلاء شأنها، ورفع منارها،
ويرشدونها إلى جوادّ المجد، ويعرجون بها في معارج الشرف والكمال، وقد مضت
سنة الأولين في هؤلاء الأخيار بأن التجني عليهم كان أكثر، والبهتان في حقهم كان
أعظم، بل سكت السواد الأعظم من أهل القرون الخالية عن الطعن بدين الذين ملئوا
كتب الدين والعلم بالكذب على الله ورسوله، ومزجوها بالخرافات والأساطير،
وطعنوا بالأئمة الأربعة المجتهدين، ووضعوا في ذلك الأحاديث، وكفّروا ناصر
السنة الإمام أبا الحسن الأشعري، وطلبوا جثته عند موته ليحرقوها، فمنعتهم
الحكومة وأخفت قبره لذلك، وكفّروا الإمام حجة الإسلام الغزالي، وذمّوا كتابه:
(إحياء علوم الدين) الذي لم يؤلف مثله في الإسلام، بأنه مزج فيه الفلسفة بالدين،
وأحرقوه في العراق ومصر والأندلس، وحكموا على الإمام السبكي مراراً بالكفر.
هذا بعض ما كان من شأنهم مع أئمة الشرع وأنصار السنة، وأما الحكماء
وعلماء المعقول فلم يبقوا على أحد منهم حتى جعلوا الدين عدو العقل، قال ابن
الوردي المؤرخ في ترجمة العلاّمة كمال الدين بن معية الذي فضَّله أثير الدين
الأبهري على الغزالي ما نصه: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتُّهِمَ في دينه،
وهذه هي العادة) ، فتأمل قول المؤرخ: وهذه هي (العادة) - تعلم ما كان من
عداوة الدَّهْمَاء من الأمة للعقل، ومن عجيب ما يروى عنهم في ذلك، ما نقله ابن
الوردي في ترجمة ابن معية هذا قال: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي سأل كمال
الدين أن يقرأ له المنطق سراً، فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال: يا فقيه، المصلحة
عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن؛ لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون
كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم، ولا يصح لك من
هذا الفن شيء! اهـ
هذا ما كان من شأن الجماهير أيام كانت سوق العلم رائجة وتجارته رابحة،
فكيف يكون شأنهم في هذا العصر الذي كسد فيه ما كان رائجًا، وخسر ما كان
رابحًا، وفسدت التعاليم، وانحرف الكثيرون عن الصراط المستقيم.
انتدب بعض مَن آتاهم الله نصيباً من الحكمة، وحظًّا من فصل الخطاب،
وحبس نفسه على إنارة العقول بالعلوم العالية، وتنبيه الأفكار إلى طرق التعليم
المفيدة [٢] ، فعقد مجلساً في الجامع الأزهر لقراءة علم الكلام الأعلى، فازدحم عليه
لشهرته الألوف، وضاق الرواق العباسي، حيث يقرأ بالطالبين، وتوقع أعداء
العقل في الأستاذ تأييد مذاهب الفلاسفة وترجيحها على مذهب المتكلمين؛ لأنه
فيلسوف، وأذكوا عليه العيون والجواسيس، ووقفوا لكلامه بالمرصاد، فبدا لهم منه
ما لم يكونوا يحتسبون، وألفوا أن مذهبه في العقائد مذهب السلف الصالح، وأنه
يرى مزج كتب الكلام بأقوال الفلاسفة مضرًّا في التعليم، كما يضر مزج أي فن من
الفنون بآخر. ولما لم يجدوا مجالاً للطعن، ولا مساغاً للقدح، لجئوا إلى الانتحال
والاختلاق، وصمموا على الإفك والبهتان، وألقوا في مسامع العامة أن فلانًا أنكر
وجود الله تعالى أو وحدانيته، ونفثوا في روع الذين يدعون بالخاصة أن الشيخ قال:
إنه يستغنى بلفظ (الرحمن) عن لفظ (الرحيم) ، وإن ذلك كان في الجامع الأزهر
على رءوس الأشهاد! !
ما أسرع سريان الباطل، في الشعب الجاهل، لم يمضِ بعض أيام، حتى
انتشرت الكلمة الخبيثة (إنكار الوجود أو الوحدانية) في مصر، وكادت تعم سائر
أنحاء القطر، فرددها أصحاب المحفل والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي، حتى
إن من يتلقفها من أفواه الناس يتوهم أنها منقولة بالتواتر، وإنما مرجعها أفاك أثيم،
ألقاها لبعض السفهاء من أصحاب الوغم واللغم (الإخبار بالشيء عن غير يقين)
فأذاعوها، وساعد على انتشارها شهرة من نسبت له مع غرابة الخبر في نفسه وفي
مكانه.
ورب قائل: هل من شبهة في كلام الأستاذ كانت متكأ لمن أذاع ذلك عنه أم
اختلقوا عليه إفكاً؟
والجواب عن هذا يُعلم مما أقصه في المسألة، وهو أصدق القصص فيها؛
لأنني كنت حاضراً مجلسه الذي يحضره مع الطلاب كثير من المدرسين.
كان المتجرم عليه يشرح لحاضري مجلسه أن طريقتهم التي هم عليها في
تحصيل العلم عقيمة، وأن دعواهم أنها تشحذ الأذهان وترهف حد الفكر فيقوى على
الفهم غير مُسَلَّمة بالنسبة لمسائل العلم. وأن قوة الذهن في إيراد الاحتمالات
والمحاورة في أساليب الكتب غير مفيدة، بل هي مضيعة للعلم نفسه، ولذلك لا نكاد
نرى محصلاً لثمرة الفنون العربية، وهي فهم الكلام العربي الفصيح والإتيان بمثله،
ولا لثمرة العلوم العقلية، وهي الاقتدار على الاستدلال الصحيح، وإنما قصارى ما
عند القوم: حكاية ألفاظ الكتب التي بين أيديهم، قال: وإنني أعطي مائة جنيه لمن
يفسر لي منكم (يعني طلاب العلم) آية من القرآن الكريم، أو يقرر لي مبحثاً من
مباحث المنطق على فهم تام، أو يقيم لي برهانًا عقليًّا على وحدانية الله تعالى،
يثبت مقدماته ويدفع عنها الشبه التي ترد عليها قبل أن يسمع ذلك مني، وكان كل
حاضر في ذلك المجلس يعلم أن غرض الأستاذ أن يقرر لطلاب العلم تقصيرهم،
يستنهض بذلك همتهم، ويثير حميتهم لتكميل أنفسهم بسلوك الطريقة المثْلَى لتحصيل
العلم. فحرف المتذقح الكلم عن مواضعه، وأشاع قطع الله لسانه أن الأستاذ ينكر
الوحدانية، حيث ينكر إمكان إقامة الدليل عليها، واشتبه على قوم الوحدانية بالوجود،
فوقع الخلاف في الإشاعة، فقال جماعة: إنه أنكر الوحدانية، وآخرون: إنه
أنكر الوجود.
ولو كان لهؤلاء الغوغاء عقل يرجعون إليه، أو علم بالدين يحكّمونه في القول،
لعلموا أنه لا يمكن لعاقل أن يصرح بعقيدته الفاسدة على ملأ من الناس في أشهر
المساجد ومدارس العلم الديني، وأنه لو فرض أنه قال: لا يمكن إقامة برهان عقلي
على وحدانية الله تعالى، فلا يقتضي ذلك إنكاره الوحدانية، لجواز اكتفائه بالدليل
الشرعي، ولأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أن الأستاذ المتجرَّمَ
عليه قد أقام على الوحدانية أقوى البراهين العقلية في رسالته التي يقرؤها في الأزهر،
وهي بين الأيدي، ونسخها تعد بالألوف، وقد قرر في الدرس ذلك البرهان
وأوضحه بأجلى بيان.
ويل للأفاك الأثيم، أراد أن يطعن بمحسوده، فطعن بدينه، فقد وصلت أفيكته
إلى القسوس الدعاة إلى النصرانية، فطفقوا يحتجون على عوام المسلمين بأن أحد
أكابر علمائكم قد قال في أشهر جوامعكم ومدارسكم على ملأ من شيوخكم ورؤساء
دينكم: لا يمكن إقامة دليل على وحدانية الله تعالى، ومن أقام على ذلك حجة
قيمة فأنا أعطيه مائة جنيه. وقد عجزوا عن إجابته أجمعون.
كبرت كلمة هو قائلها، فقد جاءت كلمته مصداقًا للحديث الشريف (إن الرجل
لَيتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً) .
وأما الكلمة الأخرى، فقد كانت اختلافًا بحتًا، وبهتانًا محضًا، فإن الأستاذ بيَّن
وجه إثبات (الرحيم) مع (الرحمن) بما هو أقوى من المشهور في الكتب المتداول
بين أهل العلم فقال ما مثاله: أن صيغة (فعلان) تدل في اللغة على الصفات
العارضة، كعطشان وغرثان وغضبان، وصيغة (فعيل) تدل على الصفات الثابتة
الراسخة، كعليم وحكيم ورحيم. وكلام القرآن جاء بالأسلوب العربي، حتى في
الحكاية عن صفات الله تعالى التي تتنزه عن مشابهة صفات المخلوقين من العروض
والزوال، ومن مقتضى الأسلوب العربي عدم الاستغناء في مقام المدح بالصيغة التي
تدل على الوصف العارض، عن الصيغة التي تنبئ عن النعت الثابت، وإن كان
في الأولى زيادة في المبنى، تدل على زيادة في معنى الصفة. ولا يخفى على
بصير أن هذا أوجه من قول الجمهور: إن (الرحمن) هو المنعم بجلائل النعم،
و (الرحيم) هو المنعم بدقائقها، إذ يمكن أن يقال فيه: إن المنعم بالجلائل يكون
منعمًا بالدقائق بالأولى، وإن ردوه بما لا مقنع فيه. على أن بعض العلماء قال: إن
(الرحيم) تأكيد (للرحمن) . ولكن المتقدم يجب التأويل له وإن صادم الحقائق،
والمتأخر يجب الطعن فيه وإن أظهر الدقائق، وباب الاحتمال يسع جميع الغابرين،
ولا يجوز أن يلجه واحد من المعاصرين، بل يُتجنى على المعاصر وإن لم يجن،
ويُتجرَّم عليه إذا لم يجرم، هذا هو مذهب علماء السوء في كل عصر، وهذه
شنشنتهم في كل قرية ومصر، وبمثل هذا القيل والقال يفسدون اعتقاد العامة،
ويرفعون من نفوسهم الثقة بالعلماء، ولعمر الحق إننا قد شاهدنا عند هذا الأستاذ
(المتقوَّل عليه ما مر) من الأدب مع القرآن، ما لم نر مثله في هذا الزمان،
حتى إنه لينهر طلاب العلم كل يوم عن إساءة الأدب في الأسئلة عن كلام الله تعالى
وصفاته، ولقد أنب من قال له يستغنى بوصف (الصراط المستقيم) عن قوله تعالى
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٧) ووبخه أشد التوبيخ على سوء أدبه،
وإن كان غرضه الاستفهام لا الجزم، ويعرف هذا كله جميع من يحضر درسه وليسوا
بالقليل.
فالله الله في العلم والدين، واعلموا أن مضرة الفتن في هذا العصر تربو وتزيد
على مثلها في العصور السالفة، وعداوة العقل والعقلاء، والطعن بالفلاسفة والحكماء
تتعدى غميزته للدين، لاسيما إذا كان بعنوان الدين.
ونحن نفتخر بديننا أنه أرشد الناس إلى استعمال العقل، وحث على
النظر والاستدلال، وجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وتمم مكارم الأخلاق، فما لنا
نتذقح ونتجنى على علمائنا وعقلائنا، ونغش أنفسنا بأننا ننصر بذلك ديننا ونرضي
ربنا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: ١٦-١٨) .