للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طفولية الأمّة
وما فيها من الحيرة والغمة

لا همّ للطفل في أول عهده بالوجود إلا إرضاء شهوة البطن , يساق إليه
الغذاء فيُلهَم تناوله إلهامًا، ثم يعطى التمييز بالحواس الظاهرة ثم بالحواس الباطنة،
يكون فيه أولاً ضعيفًا ثم يقوى بالاستعمال تدريجًا، يطلب أولاً كل شيء يراه للأكل
قريبًا كان أم بعيدًا، ثم يطلبه لأجل اللعب، يجهل أولاً تحديد المسافات فيمد يده
إلى قمر السماء ويحاول القبض على الطيور في الهواء، ثم يشعر من تكرار الخيبة
بضعفه وعجزه، فيطلب مثل هذا من أبيه أو أمه لأنه يعهد منهما بالمعاملة في كل يوم
تحصيل رغائبه التي يعجز عنها، ثم يتم تمييزه لهذه البديهيات وينتقل إلى مبدأ
طور الفكر والتعقل وإدراك المصالح والمنافع في الجملة وهو طور بين الطفولية
والرجولية، ولكن الولدان يكونون فيه أقرب إلى ماضيهم من مستقبلهم فيؤثرون
ما يرتاحون إليه ويلتذون به على ما فيه كلفة ومشقة، وإن كانت المصلحة وحسن
العاقبة في هذا دون ما قبله، وينظرون إلى أنفسهم وحدها دون مَن يعيشون
معهم؛ لأنهم يتوهمون أن الإنسان مكلف بنفسه دون غيره، وأنه يمكن له أن يكون
سعيدًا بين الأشقياء وناعمًا بين ذوي البأساء والضرّاء، ولذلك كانوا أشد الحاجة
إلى الهادين والمرشدين الذين يثقفونهم ويربونهم مستعينين عليهم بهدي الدين
وحوادث الكون والوجود , وإلا انتقلوا إلى طور الرجولية بحيوانيتهم دون إنسانيتهم
وبأجسامهم دون أرواحهم وأحلامهم.
وبعد، فإن هذا العدد العظيم الذي يبلغ ثلاثمائة ألف ألف أو يزيد، الذي نسميه
الأمة الإسلامية قد أمسى بحالة من الضعف الصوري والمعنوي والفقر المادي
والأدبي يستحي من ينتسب إليه من وصفها وشرحها , وقصارى ما نقول فيه: إنه لا
يسمى أمة إلا بضرب من التجوز كما تسمى صورة الأسد المرسومة في الجدار أسدًا.
فقد كان المسلمون - وهم أقل الأمم عَددًا وعُددًا - أعز الأمم وأقواها وأعلمها
وأغناها، ثم انقطع السلك فتناثر الحب وبطل إطلاق اسم العقد عليه إلا إذا لوحظ ما
كان دون ما هو كائن، ويظن الجاهلون أنه لا رجاء في نظم العقد ثانية وانتظام
شمل المسلمين، ويعتقد الذين لا يقنطون من رحمة الله ولا ييأسون من روحه أنه
لابد أن ينجز لهذا الدين وعده {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} (التوبة: ٣٣) فيستمر
ظهوره وغلبته إلى آخر الزمان، وقد ورد في الخبر: إن أمة النبي صلى الله عليه
وسلم كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، بل ورد أيضًا أن الخير فيه -عليه
الصلاة والسلام- وفي أمته إلى يوم القيامة.
قد أتى على الأمة حين من الدهر والخير فيها يقل والشر ينمو , حتى وصلت
إلى ما هي فيه اليوم، وإننا نرى الآن في جوّها المظلم بالفتن برقًا يومض بين
الغيوم المتكاثفة، ويوشك أن يعم فيكون الظلام نورًا، وأقول كما قال حكيمنا:
إنني أرى في هذه الشجرة اليابسة - الأمة الإسلامية - ورقات خضر ولا أدري هل
هي من بقايا حياتها الأولى أم هي مبدأ حياة جديدة؟ وأزيد على هذا ترجيح
الشق الثاني بدليل أن الورقات تزيد ولكنها عرضة للتصوّح والسقوط بما يهب عليها
من بوارح المحن وزعازع الفتن , إذا لم تُحَط بالتربية الصحيحة، ولذلك شبهت
الطور الذي فيه الأمة الآن بطور الطفولية، ونبهت إلى شدة الحاجة إلى المربين
والمثقفين.
أليس السواد الأعظم مِنَّا لا يهمهم إلا لذّاتهم وحظوظهم الشخصية كما هو
شأن الأطفال؟ ! هل يفقهون معنى الأمة ويعلمون ما هي المقومات التي تقوم
بها، والروابط التي تجمعها والأمر الذي تؤمه وتقصده؟ هل يتفكرون في الحياة
الاجتماعية وما يعرض عليها؟ كلا إن من يتجاوز فكره محيط شخصه فلا يعدو بيته
وولده وهو في هذا لا يمتاز على الأنعام، وإذا ذكرهم مذكر ونبههم منبه حارون
وتضطرب أفكارهم، ولا يكادون يفهمون الحقيقة , وهم الآن على درجات: فمنهم
مَن لا يفكر في معنى الأمة قط، ومنهم مَن يرى البعيد قريبًا كالطفل الذي
يمد يده لتناول القمر كما جرى ويجري لبعض الحكام وأصحاب السلطة , كإسماعيل
باشا وأصحاب الفتنة العرابية، ومنهم من يرى نفسه عاجزًا عن كل شيء ,
ويرى الحاكم قادرًا على كل شيء كما هو شأن الطفل الذي يطلب القمر أو الطير
في الهواء من أمه أو أبيه، ومنهم من يفتكر في المصالح والمنافع التي تخص
الأمة ويعذل المقصرين وهو منهم ولكنّه يغضّ الطرف عن عيوبه، وينظر إلى
عيوب الناس بالنظارة المعظمة، وإذا عمل فإنما يعمل لشخصه، وإذا وقعت
مصلحة الأمة في طريقه داسها ومضى في سبيله كما هو شأن الولدان في أول طور
الفكر والتعقل، ومنهم الذين دعوا إلى الاجتماع لأجل العمل فاجتمعوا فصاح بهم
صائح الفتنة فتفرقوا (كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم) أو كالصبيان يجتمعون للعب فينعق
بهم ناعق فيتفرقون (أيدي سبا) لأنهم لم يتربوا على الاجتماع، ولا يقدرون
الأعمال الاجتماعية قدرها، وليس عندهم شيء من أخلاق الرجال، كالصبر والثبات
والاحتمال، نقول في الأمة (المجازية) ما قلنا في في شأن الأطفال: إنها في أشد
الحاجة إلى المرشدين والمربين الحكماء العارفين بالأمراض الاجتماعية وأدويتها
وطريق علاجها لتكون بهديهم أمة (حقيقية) وقد يوجد فيها أفراد منهم يشاركهم في
عملهم أكثر منهم من المتصدرين الجاهلين يهدمون ما يبنون ويفسدون
ما يصلحون {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة:١٨)
وقد صار هؤلاء الأطفال في أحلامهم الرجال في أجسامهم في حيرة،
وغُمَّ عليهم الأمر باختلاف المرشدين، ويميل الأكثرون إلى من لا يكلفهم عملاً ولا
يلصق بهم عارًا ولا زللاً، وسنبين مثارات الحيرة ومناشئ الغمة في مقالة أخرى
إن شاء الله تعالى.