للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع العام
في جمعية شمس الإسلام

انتظم عقد الاجتماع العمومي في ليلة الإثنين ٢٨ رمضان، وافتتحت الجمعية
بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه والدعاء لمولانا أمير المؤمنين، ولأمير هذه البلاد
ثم قرأ القارئ في الافتتاح آيات شريفة فيها ذكر الأمر بالعدل، فقام كاتب هذه
السطور خطيبًا في العدل، بينت أولاً أن العدل هو التوسط في الأمور والوقوف بين
طرفي الإفراط والتفريط، وأن كثيرًا من الناس يظنون أن العدل إنما يكون في الأحكام
فقط، والمعروف في علم الأخلاق أن الفضيلة هي العدل (ويقولون العدالة أيضًا)
في الأخلاق والسجايا كلها، والصواب أن العدل كما قال العلامة البيضاوي يكون في
الاعتقادات والأخلاق والأعمال، كما يكون في الأحكام، أما في الاعتقاد فكالتوحيد
المتوسط بين اعتقاد الجبر وزعم أن الإنسان لا عمل له وإنما هو كالريشة في الهواء
تحركه الأقدار كما تحركها الرياح، وبين اعتقاد القدر بمعنى أنه خالق لأعمال نفسه
مستقل فيها تمام الاستقلال، وأما في الأخلاق فقد توسعت في البيان وأطلت الكلام،
حيث بينت قوى النفس الشهوية البهيمية، والغضبية الوحشية، والعاقلة الإنسانية أو
الملكية، وبينت الإفراط والتفريط في القوتين الحيوانيتين، وما ينشأ عنهما من
الأخلاق التي تهبط بصاحبها إلى حضيض البهائم، فيكون كالخنزير لا همّ له
إلا في شهوة البطن أو ... أو كالكلاب الكلبة والوحوش الضارية لولعه بالإيذاء
والبغي والتعدي، أو الأخلاق التي يضعف بها الإنسان عن حفظ شخصه ونوعه
والذود عن حوضه، وأطلت الكلام هنا على الجبن الذي ما فشا في أمة إلا ونسف
هيكل مجدها وقوّض صرح عزها، وثل عرش سيادتها واستقلالها، ثم بينت كيف أن
الفضيلة في العدل والتوسط في ذلك كله، ثم انتقلت إلى شرح الإفراط والتفريط
والتوسط في القوة العاقلة، وكيف يكون المرء بالأول شيطانًا ماكرًا مخادعًا يتعمق
في الرأي والفكر فيخطئ كالرامي إلى حد معين يجتهد في إبعاد الرمي فيخطئ المرمى
وبالثاني فدمًا لا يفهم وحيوانًا لا يعقل، وبالثالث عاقلاً حكيمًا صحيح التصوّر مصيبًا
في الحكم، وضربت في بعض القول المثل، ثم تكلمت في العدل بالأعمال
بالاختصار؛ لأنها في الغالب تابعة للأخلاق وتعرف بها، وأما العدل في الأحكام فقد
اعتذرت عن الخوض فيه بأنه مخصوص بالحكام، ونظام الجمعية لا يسمح لي
بانتقاد أحكامهم على أننا معاشر المسلمين نعتقد كافة أن العدل لا يوجد بكماله إلا في
شريعتنا، ونعلم ما أخذ به حكامنا وما تركوه منها، ونحن في مجلس وعظ ديني ينبغي
أن يخاطب الناس فيه بما يفيدهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم.
وانتظم عقد الاجتماع العمومي أيضًا في ليلة الإثنين الماضية ٥ شوال، وبعد
افتتاح الاجتماع بالحمد والصلاة والدعاء قرأ القارئ قوله تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ
رَبِّك} (النحل: ١٢٥) إلى آخر السورة، فخطبت في موضوع الآيات خطابًا لا
يسع المقام الإشارة إلى أمهات مسائله، لكنني أقول: إننى أسهبت في الكلام على
الصبر وكونه متحتمًا على الذين يقومون بخدمة الأمة ويعملون لها، فيعارضهم
أعداء الإصلاح الذين يحاربون الحق الصريح بالوهم القبيح، وذكرت بمناسبة قوله
جل وعز: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا
يَمْكُرُونَ} (النحل: ١٢٧) بعض ما كان يقاسيه عليه أفضل الصلاة والسلام من
الكافرين والمنافقين الذين يمكرون السيئات: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: ١٠٧) وإنما أسهبنا في هذا لأجل تثبيت أنفسنا
وإخواننا بالتأسي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن أعداء أنفسهم من
اللابسين لباس المسلمين طفقوا يخوضون بجمعية (شمس الإسلام) وبهذا الفقير
خاصة ويتقوّلون علينا الأقاويل، كما هو شأن الظالمي أنفسهم في كل زمان ومكان،
من ذلك أنه وقف عليّ رجل من هؤلاء في الدرس الذي كنت ألقيه في المسجد
الزينبي بإذن فضيلة شيخ الأزهر فسمعنى قلت للناس: (قال نبيكم ... ) فخرج
يقول: إن رشيدًا ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: نبينا، على
أنني لم أبتدع هذه الكلمة، وإنما حفظتها من الخطب المنبرية وهي التي ألّفها خطباء
الحرم النبوي الشريف، والخطباء في سائر البلاد يحكونها عنهم، قال جاد المولى
في خطبه المتداولة في هذه البلاد والبلاد الشامية حاكيًا عن أهل المدينة المنورة:
(إذ قال خطيبهم على أعواد منبره جهرًا: قال نبيكم هذا من صلى عليّ مرة صلى
الله عليه بها عشرًا) وقال أيضًا: (إذ قال خطيبهم مبشرًا بمزيد الفضل والمنة،
قال نبيكم هذا: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وسعى آخرون
بي إلى المقامات العالية وقالوا كذبًا، وخلقوا إفكًا، فلم يقبل قولهم، بل سقطت
بسببه منزلتهم، وقد أشهدت الله علي وأشهدت إخواني في الخطبة على أنني قد
تصدقت بعرضي على من خاض ويخوض فيّ وسامحتهم، وأسأل الله صلاح حالي
وحالهم، وإنما يبالي بسعي الساعين، وتقوّل المتقولين من يعمل لأجل تحصيل المال
أو الجاه من الأمراء والعظماء حيث يخشى أن تصدق السعاية فيفوته المطلوب، ومَن
يعمل لله تعالى وهو يعلم أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فكيف يبالي
بالمحْل والزور؟
ثم قام في أثري أخونا الفاضل المهذب الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي
وألقى على المسامع بعض المواعظ النافعة المؤيدة بآثار الصحابة عليهم الرضوان،
ونبّه على وجوب معرفة المرء مكانته من الناس ومكانتهم منه وفاقًا لما عرف به
حكيمنا العلم الذى نحن في أشد الحاجة إليه لترقينا حيث قال: (العلم هو ما يُعرِّفك
من أنت ممن معك) فأوجز وأفاد ودعا إلى سبيل الرشاد، فجزاه الله خيرًا.
ثم قام هذا الفقير في إثره وتكلم في موضوع القول والعمل كلامًا ملخصه: إن
للناس في كل وقت مقالاً يكثرون الثرثرة به، وقد فتح عليهم في هذه الأيام باب الكلام
في الإسلام والمسلمين، فقوم يكتبون ويخطبون، وقوم يقرءون ويسمعون فيفندون
قليلاً ويحبذون كثيرًا، على أن أكثر الكلام لغو لا يهدي إلى صالح عمل، ولا يقوّم من
زيغ أو زلل، والميزان الذي يعرف به زيف الكلام من نضاره، ويميّز به بين نافعه
وضاره، هو أن ما أزال عقيدة باطلة أو أثبت عقيدة حقة، أو أرشد إلى عمل نافع،
أو هدى إلى النجاة من ضرر واقع، بحيث تقتنع به النفس وتندفع إليه الإرادة - فهو
الكلام الذي يسمع، والهدي الذي يرفع، وما عداه هو اللغو كشرح ما عليه الناس
ويعرفونه من أنفسهم، أو الأمر بما يعرف المرء أنه مأمور به من قبل الدين، والنهي
عما يعلم أنه منهي عنه من غير أن يؤيد بيان المنافع التي تبعث على الامتثال وشرح
المضار التي توجب النفار، وسردت الآيات الشريفة التي تأمر بالإعراض عن
اللغو.
ثم قام حضرة الأخ الفاضل سيد أفندي محمد وتكلم كلامًا وجيزًا مؤثرًا في
الوفاق والوئام وعدم التفرق والاختلاف، وأورد على ذلك الآيات البينات، فكان له
وقع حسن في النفوس، وبعد ذلك خُتمت الجلسة كما بُدئت بالحمد والصلاة، والدعاء
للسلطان الأعظم والأمير المعظم ولمؤسسي الجمعية وتلاوة الآيات القرآنية الشريفة.
ثم إن مجلتنا مستعدة لنشر المآثر التي تقوم بها لجان جمعية (شمس الإسلام)
في جميع أنحاء القطر المصري، فما عليهم إلا أن يكتبوا إلينا بما يرغبون نشره.