للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كلمة للمؤرخين
ثورة السوريين على الإكليروس

احتفال جمعية الشبان المارونيين
نكتب هذه السطور لتكون من بعدنا مستندًا للكتاب والمؤرخين حتى إذا
قدر الله أن تنهض هذه الأمة السورية التعيسة من وهدة التأخر والخمول إلى ذروة
التقدم والفخر يعلم الناس أساس تلك النهضة وأسبابها.
نكتب هذه السطور بمداد الفخر والإعجاب لتكون أكبر دليل على أن
السوريين لا تزال في صدورهم روح الأنفة والحماسة وحب التقدم والنشاط.
بل نكتب هذه السطور لنفتخر بأن كلام (الأيام) وغيرها من الجرائد
العربية الحرة في هذه البلاد قد أثمر - والحمد لله - الثمرة الصالحة التي كاد أن يقطع
الأمل من الحصول عليها في الحين القريب.
فالسوريون منذ ليلة الجمعة الواقعة في (٩ شهر شباط سنة ١٩٠٠) قد
خطوا الخطوة الأولى في سبيل التقدم والحرية.
وهي الليلة التي احتفلت فيها جمعية الشبان المارونيين بمرور سنة
كاملة على تأسيسها.
فإن هذه الحفلة كانت بعلم من الله تعالى واسطة لإظهار ما تُكِنُّه قلوب
السوريين من الكُره والنفور من أعمال الآباء الروحيين التي كانت ولا تزال منذ
القديم عثرة في سبيل تقدم السوريين واتحاد قلوبهم , بل هي التي كانت سبب
المخاصمات والعداوات الطوائفية التي اشتهر أمرها بين النزالة السورية في
العامين الأخيرين وكانت نتيجتها تعطيل المتاجر وخراب البيوت وتدنيس
الشرف السوري في بلاد الحرية والعدل.
نعم إن السوريين قد شعروا الآن بأن تلك القلانس هي التي كانت منبع الشر
والفساد فيما بينهم , وأنها الباعث الوحيد على تأخرهم وشقائهم وتنافر قلوبهم وتعاسة
أحوالهم , فقاموا الآن قومة واحدة يرومون تحطيمها كما فعل الفرنسيون من قبلهم
في ثورتهم المشهورة على الإكليروس , وهي التي ينبئنا التاريخ أنها كانت حجر
الزاوية لذاك الطود الشامخ، نعني به تقدم الأمة الفرنسوية وتمدنها الذي نراه الآن
ساطعًا كالشمس في فلك هذا العالم.
جهاد وأي جهاد قام به السوريون في أواخر الأسبوع الماضي! فقد اشترك فيه
الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي واليهودي وكل سوري غيور على شرفه ومتنور
بنور العلم الصحيح البعيد عن الخرافات والأباطيل.
فمن سمع قبل الآن أم قرأ في تاريخ السوريين وماضي أحوالهم أن هذه الأمة
التي يصفها الكُتاب الأجانب بالطاعة العمياء لرؤساء الأديان والتي كانت في الحقيقة
منبع التعصبات الدينية في سابق الأزمان - دافعت ولو مرة واحدة عن حقوقها المداسة
بأرجل الإكليروس منذ الألوف من الأجيال؟
إن هذا لم نسمعه منذ قديم الزمان ولكننا قد سمعناه الآن، فقد ضجت
النزالة السورية بالأمس بخبر ما توقع مساء الجمعة الماضي لحضرة الأب المحترم
الخوري يوسف يزبك ساعة انتصب على المرسح خطيبًا من غير أن يدعوه
أحد من الناس , وشرع يندد بالأدباء والمصلحين , ويدعو الناس إلى التعصب
والطاعة العمياء ويقول لهم: (إن من لم يخضع لسلطتنا فليسقط ومن لا
يرضى بأعمالنا وأفعالنا فليشق نفسه غيظًا وليمت كمدًا وحسرة) .
بمثل هذا الكلام تفوه هذا الأب المحترم , بل هو قد فعل أكثر من ذلك , ففاه
بكلمات لا يليق برجال الله الأتقياء أن يفوهوا بها بمثل هذه المحافل الأدبية؛ إذ قال
في جملة مطاعنه على بعض الخطباء الذي تقدمه في منبر الخطابة , وخطب في
وجوب التساهل الديني: (إنه كالسعدان يتمعص، ويتقعص، ويتملص , ويوصي
الناس بالخلاعة وعدم التسليم لإرادة مرشديهم الخوارنة الأطهار) .
وتفصيل الخبر
إن جمعية الشبان المارونيين أقامت مساء نهار الجمعة الفائت الواقع في ٩
الحاضر احتفالاً شائقًا بمناسبة مرور سنة كاملة على إنشائها , ودعت ما يقرب من
ستمائة شخص من السوريين , وبعض الأمر كان لسماع الخطب في المكان الذي
أعدته لهذه الغاية - وهو أرلنثن هول - فخطب في الجمع أدباء كثيرون ودارت
المباحثة على محور الوطنية.
ثم اعتلى منبر الخطابة بعد ذلك جناب الشاب الذكي الفؤاد الأديب أمين أفندي
ريحاني ففاه بخطاب لم يُسمع له نظير من خطيب سوري حتى الآن وعنوانه:
(التساهل الديني) نبه فيه الشعب السوري إلى وجوب التساهل الديني، ومنع
التعصب ليسهل على السوريين بعد ذلك الاتحاد الذي هو سلم السعادة والمدنية، وقد
أورد البراهين والأدلة على أن تأخر الشرقيين بالعلم والثروة والنفوذ ناتج عن انقيادهم
الأعمى إلى رؤساء الأديان، وتسليمهم لهم زمام أمورهم الجزئية والكلية، وكان
ملخص كلامه بهذا الموضوع: (إن الديانات غشاء على أبصار العامة من الشعب
وخرافات في نظر العلماء وتجارة في أيدي الإكليروس , وآلة نافعة في يد الحكومة) .
وكان يلقي هذه الدرر بمهارة كلية في فن الخطابة وبصوت جهوري وإشارات
لطيفة حتى أهاج في صدور القوم كامن الأحقاد على مستهضمي حقوقهم , فكان لا
ينطق بكلمة إلا ويعقبها صدى الاستحسان وتصفيق الأيدي , ولكن ما سمعه الجمهور
من خطابه أساء (بالطبع) رجال الإكليروس الذين كانوا في صدر تلك الحفلة ,
وكأنهم خشوا أن تكسد تجارتهم وتسقط هيبتهم في أعين الشعب بعد أن تتنور الأذهان
فقام أحدهم وهو الخوري يوسف يزبك , وادعى أنه سيخطب في موضوع الثناء
على القنصل الإفرنسي الذي كان نائبه حاضرًا في تلك الليلة , فتخلص من ذلك
الثناء إلى الطعن بشخصيات ريحاني أفندي بكلام تأبى سماعه آذان الأدباء معترضًا
على ما قاله من وجوب التساهل الديني والاتحاد الوطني , وكان كلما قال عبارة من
هذا النوع ينتظر من الحضور أن يصفقوا له تصفيق الاستحسان, ويقولوا له:
(سبحانك) ولكنه رأى في هذه المرة غير ما كان يعهده بأبناء سورية , فإنهم قابلوا
كلامه بصفير الاستهزاء , وطلب وجهاؤهم وأدباؤهم من هيئة الجمعية إسقاط المتكلم
عن منبر الخطابة خوفًا من هيجان الشعب , ولما تمادى الأب المشار إليه في جرح
الحاسات الوطنية وإثارة روح التعصب؛ علت ضجة الشعب من كل جانب , وما كاد
الأب ينهي عبارته: (من لا يخضع لسلطتنا فليسقط) حتى نادى الحضور بصوت
واحد: فلتسقط أنت وكل من كان على شاكلتك , وهجم بعض الشبان على المرسح
يريدون إسقاط الكاهن بالقوة , وحاول كثيرون من الأدباء الخروج من الحفلة
إظهارًا لاستيائهم من عمل الأب المشار إليه , فمنعهم أعضاء الجمعية وطيبوا
خاطرهم.
ولما رأى جناب الأديب شكري أفندي رحيم مدير الجمعية أن لا سبيل لتسكين
الخواطر إلا بإسقاط الأب عن كرسي الخطابة ومنعه من إكمال خطابه - طلب من
الأب تخفيف لهجته أو التوقف عن الكلام فرفض الأب إجابة الطلب , فالتزم إذ ذاك
لتوقيفه بالقوة عملاً بنظام الجمعية , وهكذا تم , فسُر جميع الحضور من عمله ,
وأثنوا على الجمعية التي بذلت كل ما في وسعها لتسكين الخواطر وإرضاء
الجمهور، وهو عمل ندونه لها بمداد الشكر والثناء.
ولم يزل الشعب متأثرًا من عمل الأب المشار إليه حتى نهاية الحفلة فقام إذ
ذاك جناب الشاب الوطني الأديب الأمير يوسف أبي اللمع وألقى في الحضور خطابًا
مهيجًا صادق به على كلام الخطيب الأول أمين أفندي ريحاني , وكانت لهجته
شديدة فقام بعض دعاة التعصب , وأحدثوا جلبة وضجة بين الحضور , وطلب
بعضهم منع الخطيب عن الكلام , ولكن الرأي العام كان متحيزًا له , فقام النزاع بين
الأحزاب , ولكنها والحمد لله لم تكن أحزاب طوائفية لأن الطوائف كانت متحدة يدًا
واحدة , بل كانت أحزاب آراء وأميال فاز فيها التمدن والعلم على الخمول والجهل ,
وأثنى الحضور على الخطيبين اللذين تكلما في وجوب التساهل الديني , وحملوهما
على الأكف , وقد اقتصر النزاع على الكلام , ولم يحدث تلاكم وخصام , وانتهت
الحفلة باعتذار عمدة الجمعية عما حدث من غير قصد ولا علم منها , وهكذا
انصرف الجمع , وهم لا يعلمون إذا كانوا في يقظة أم في منام لأن المظاهرات التي
ظهرت في تلك الليلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السوريين منذ قديم الزمن حتى
الآن.
هذه حاسات الشعب شرحناها كما هي , وهذه تفاصيل الحفلة ذكرناها من وجه
إخباري , ونحن كما يعلم الجميع نُجِلُّ الأديان ونحترمها , ونكرم الكهنة الأفاضل
الذين يسيرون بموجب التقوى والفضيلة , ويسوءنا أن نرى تصرفات البعض منهم
قد أوجبت حنق الشعب وهيجانه.
ويا حبذا لو اقتدى البعض من كهنتنا بكهنة الأمريكان الذين إذا اعترضوا على
مبدأ ما أظهروا اعتراضاتهم بالكلام الحسي متجنبين الأوصاف الغير لائقة
(كالسعدان والأمعط والأشمط) لاسيما وهم في أعين الشعب قدوة الأدب وعنوان
الفضيلة اهـ بحروفه.