للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أمالي دينية
(الدرس التاسع)

(٢٩) الوحدانية وأقسامها
جعل المتأخرون مبحث الوحدانية ثلاث مسائل، إحداها: وحدانية الذات بمعنى
أن الواجب واحد لا يتعدد ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , وأن ذاته لا تركيب
فيها كما أنها ليست جوهرًا فردًا يدخل في بناء الأجسام , ويدعون هذا نفي الكم
المنفصل , والثانية: وحدانية الصفات بمعنى أن صفاته لا تعدد فيها , فليس له
علمان وإرادتان وقدرتان , بل علم واحد محيط بكل المعلومات , وإرادة واحدة نافذة
في جميع الأشياء , وقدرة واحدة لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات , وهكذا سائر
صفات الكمال , ويسمون هذا نفي الكم المتصل , وأنه ليس لغيره تعالى صفة تشبه
صفاته تعالى , بل ليست الموافقة بين صفات الخلق وصفات الخالق إلا بالتسمية
فقط , ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , والثالثة: وحدانية الأفعال، ولا يُتصور فيها
إلا الكم المنفصل , ومعناها أنه لا فعل إلا لله - تعالى - وحده , هذا ما جرى
عليه المؤلفون في التوحيد من عهد السنوسي إلى الآن ولم يكن المتقدمون يُدخلون
هذه المسائل كلها في مبحث الوحدانية؛ لأن الوحدة بمعنى نفي التركيب , وكون
صفات الله تعالى لا تشبه صفات أحد من خلقه يدخلان في مبحث التنزيه (راجع عدد
١٩ و٢٣ من الدرس السادس) وأما تصور تعدد الصفات من جنس واحد , فقد جاء
من التعمق في فلسفة الأفكار , فاحتاجوا إلى نفيه , ولا يوجد أمة من الأمم تعتقد هذا
الاعتقاد , وليس عليه شُبه ظاهرة يُلتفت إليها , وأما الاعتقاد بأن الله تعالى خالق
كل شيء , وإليه يستند وجود كل ممكن , فهو يدخل في مبحث وجوب الوجود
(راجع الدرس الخامس) نعم إن مسألة أعمال العباد وكسبهم لها تعلق بهذا
المبحث , وسنفرد لها درسًا مخصوصًا , فبقي أن الوحدانية إذا أُطلقت تنصرف
إلى مفهوم كلمة (لا إله إلا الله) أي نفي الألوهية عن غير الله - تعالى - والمتبادر
من معنى الألوهية المعبودية , ومن معنى الإله المعبود , فالوحدانية إذن هي
وحدانية العبادة التي شرحناها في الدرس الثامن , ولما كان المعبود بحق هو
خالق الكون ومدبره؛ وجب أن يبرهن في مبحث الوحدانية على كون هذا الخالق
واحدًا لا ند له ولا شريك وهو ما عقدنا له هذا الدرس.
(٣٠) البرهان:
قام البرهان على وجود الواجب كما بيناه في الدرس الخامس , وهو يصدق
بواجب واحد , ولا تقوم حجة على وجود واجب آخر , بل على عدمه وانتفائه ,
وبيانه من وجوه:
(الأول) : لو جاز التعدد للزم المحال لأنه لا عدد وراء الواحد تقتضيه
ذات الواجب , فكل عدد يفرض لا بد أن يكون له مرجح يرجحه على سائر الأعداد
المتساوية في نظر العقل بالنسبة لما يجوز عليه التعدد , فإن وجد المرجح لزم أن
يكون الواجب المسبوق به حادثًا؛ لأنه ليس من ذاته , والواجب قديم كما سبق
برهانه , فلا يكون ما فرض واجبًا واجب وهو تناقض محال , وإن لم يوجد
المرجح؛ لزم ترجيح العدد الذي فرض انتهاء الواجب إليه على غيره بدون مرجح
وهو محال فثبت نقيضه وهو أن الواجب واحد لا يتعدد.
(الثاني) : أن واجب الوجود ما عرف بالحس , وإنما عرف بالعقل الذي
نظر في هذه الكائنات الممكنة فوجدها بديعة النظام متقنة الصنع سننها مطردة
ونواميسها ثابتة محكمة , فعلم أنها صادرة عن ذات واحدة واجبة ذات علم وإرادة
وقوة , ولو كان صدروها عن ذوات واجبة متعددة للزم أن يكون لكل ذات علم
وإرادة وقدرة مغايرات لما للذات الأخرى , وما كان صادرًا عن قُدر وإرادات وعلوم
متعددة لا يجري على نظام واحد , بل يختلف باختلاف مصادره , وهذه الكائنات لا
خلل فيها ولا اختلاف؛ فوجب أن تكون صادرة عن ذات واحدة لا عن ذوات
متعددة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: ٢٢) .
(الثالث) : يمكن الاستدلال على وحدة الصانع من كل ذرة في الكون كما
يستدل بمجموع الكائنات على ما في الوجه الثاني , ولهذا قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وبيانه بالإيجاز أن كل ذرة من الذرات التي تألفت منها مادة الكون (كالجوهر
الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ) إذا فرضنا تعلق أكثر من إرادة بإيجادها فلا يخلو
إما أن تنفذ واحدة من تلك الإرادات فقط , وإما أن تنفذ جميعها , فإن نفذت جميعها
لزم اجتماع أكثر من مؤثر على أثر واحد بسيط وهو محال , وإن نفذت إرادة واحدة
فقط ووجدت تلك الذرة بقدرة صاحبها وحده كان صاحب الإرادة النافذة والقدرة
المؤثرة هو الواجب الذي يستند اليه الإيجاد , وماعداه من الواجبين المفروض
وجودهم باطل لا حقيقة له (ألا كل شئ ما خلا الله باطل) هذا إذا فرضنا أن
الواجبين اتفقوا على إيجاد الذرة , وإذا فرضنا أنهم اختلفوا بأن أراد أحدهم إيجادها
وغيره عدم إيجادها , فحينئذ إما أن تنفذ الإرادتان معًا؛ فيلزم التناقض المحال وهو
أن الذرة وجدت ولم توجد , وإما أن تنفذ إرادة واحدة فقط فيكون صاحبها هو
الواجب الذي تصدر عنه الممكنات , وفرض وجود واجب آخر معه باطل لا حقيقة
له لأننا لا نعرف للواجب معنى إلا الذات التي لها الوجود من نفسها , وعنها تصدر
سائر الوجودات الممكنة بقدرة وإرادة وعلم.
ويمكن ايراد البرهان بكيفية أخرى , وهي إذا فرضنا وجود واجبين لكل منهما
علم تام وإرادة نافذة وقدرة كاملة , وأرادا إيجاد شيء فلا يجوز أن تنفذ الإرادتان
لئلا يكون للشيء الواحد وجودان متغايران لكل واحد منهما مصدر مغاير للمصدر
الآخر , وهو محال , ولا يجوز أن تنفذ إحدى الإراتين إذ لا مرجح يرجحها على
الأخرى؛ لأن الفرض أنهما متساويان فيلزم من تعدد الواجب أن لا يوجد ممكن ما ,
لكن وجود الممكنات ثابت بالمشاهدة , فتعين أن تكون صادرة عن واجب لا إله
غيره ولا رب سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))