للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إعادة مجد الإسلام

] كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [[*] .
كثر الخوض في هذه الأيام في إعادة مجد الإسلام فتبارت الألسنة بالكلام ,
وتسابقت في ميادين الصحف جياد الأقلام فغارت عرج الحمير , ونهقت تطلب
النفير , وتحاكي للناس الزئير بالشهيق والزفير , فاشتغل بهذه المجالي والمظاهر
والمسامع والمناظر من لا يميز بين الناطق والناهق , ولا يُزيِّل بين المسبوق
والسابق , وأقبل قوم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يقولون:
كيف يعود للإسلام مجده , ويرجع إليه عزه وسعده , وثلثا أهله تحت سلطة الأجانب
والثلث الآخر قد أحدقت به النوائب من كل جانب , والجواب على هذا السؤال
من الكتاب {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: ٢٩) ومن السُّنَّة: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ومن كلام علماء العمران: (إن التاريخ يعيد نفسه)
ولنوضح هذه الإشارات بشيء من الشرح والبيان ليظهر الحق للعيان.
كان العالم الإنساني قبيل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة ,
وظلمات من الظلم والفتن , وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة , وصدع
بنيانها؛ فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة , ويقيم بناء مدنيته على
أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى , ويبلغ به الإنسان كماله
المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة , فأظهر الله جل ثناؤه الإسلام في الأمة
العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية , فما كان
إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب , ودخل الإنسان في
طور جديد , وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل ما
دامت الأرض أرضًا والسماء سماء , وكيف تزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن
الخليقة , وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارها وهو
أعلم لأسباب ووجوه:
(إحداها) : أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي
أقيم فيها من قبل بنيان الحضارة , وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق
وفارس حيث كان التمدن الكلداني والآشوري والبابلي والفارسي والفينيقي
والمصري واليوناني والروماني، فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في
الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) : أنها كانت- ولا مدنية لها سابقة - أشد استعدادًا من تلك الأمم
التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول وهو
استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة
يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم وتتلاشى آراء أفرادها في
آرائهم فلا يرجع اليهم أحد قولاً , ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا , وأما
تلك الأمم فقد كان المرءوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم
إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ من الرؤساء , ويمثل أفكارهم وآراءهم.
(ثالثها) : أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة
الكمال بمجرد سلامة الفطرة , وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي
جاء يخاطب العقل والوجدان معًا , ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى , ويطمس
رسومه وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) : أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية , وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه، على حين أمات الأخرى وذهب بإرادتها ما تواتر
عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على
خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد ,
وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) : أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه
على وحي سماوي وعلى سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به
الإسلام أو يزاحمه , وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان ,
وعلى وجه يقبله العقل , وينفعل له الوجدان إذا وجد استقلال الفكر والرأي ,
وكذلك كان.
هذا ما ظهر لنا الآن من وجوه اختيار الحكمة الإلهية الأمة العربية على سائر
الأمم لإظهار الإصلاح الإسلامي ونشره في العالم الإنساني , وقد رزئ المسلمون
بجميع أرزاء الأمم السابقة التي لم تخضع للإصلاح الإسلامي من فقد الاستقلال في
الإرادة والفكر , وضعف الفهم والوجدان , والتسليم الأعمى للرؤساء , والتقاليد
الباطلة من البدع والمذاهب في أصول الدين والذلة والجبن والمهانة , وزادوا على
ذلك أنهم فقدوا لغة دينهم التي جاءهم كتاب الإصلاح بها حتى إن علماءهم لا
يفهمونه كما كان يفهمه الأعراب من رعاء الإبل والشاء , فكيف السبيل إلى
إرجاعهم إليه , وهم لا يتناولونه بأفهامهم , وإن الكثيرين منهم فتنوا بمدنية أوربا
فبعضهم يرى أن السعادة فيها مطلقًا , والبعض يرفضها , وينهى عنها باسم الدين
من غير فصل بين نافعها وضارها , وبين ما كان منها موافقًا للإسلام أو مأخوذًا
عنه وما ليس كذلك , فالإصلاح الذي يعيد للإسلام مجده لا يوجد إلا على أيدي
جماعة لهم استقلال في الفكر والإرادة , وعندهم شهامة وعزة , ويمكن أن يفهموا
القرآن أو يُفهموه حتى إذا دُعوا لجعله أصلاً مع السنة الصحيحة , وما كان عليه
السلف الصالح من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال؛ يلبون الدعوة وينصرونها
بما يستطيعون من حول وقوة لا يزحزحهم عنها الرؤساء , ولا يصدهم عن قبول ما
فهموه تجرع عصارة أفكار القدماء , واستقلال الإرادة والفكر لا يوجد الآن في
الجملة إلا عند طائفتين من المسلمين:
(الطائفة الأولى) : بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية , وأكثرهم من
الأتراك والهنود وفيهم عدد غير قليل من المصريين وغيرهم , وأكثر أفراد هذه
الطائفة منحرفون عن صراط الدين غير مصبوغين بآدابه وفضائله وأعماله , وما
داموا كذلك لا يرجى منهم للأمة خير , ومولانا السلطان عبد الحميد يمقت هؤلاء
المتمدنين , ويراهم آفة على الأمة وبلاد الإسلام , ومثل المصريين يسهل إقناعهم
بقضايا الدين الحقيقية إذا وجد فينا علماء عارفون بالعلوم والفنون التي تلقوها
والأفكار الجديدة التي أشربتها قلوبهم يكتبون الكتب , ويقرأون الدروس في التوفيق
بين الإسلام وبين المدنية الحقة والعقل , بل في بيان أنهما صنوان لا يختلفان , وكم
من صاحب شبهة أو شبه في الدين أرجعته قراءة (رسالة التوحيد) إلى الحق
اليقين , وهؤلاء إنما استفادوا من التعليم الجديد استقلال الفكر دون استقلال الإرادة ,
فالضعف والجبن غالبان عليهم , وأكثر ما يرجى منهم نشر العلوم والفنون التي
تعلموها , ونشر الدعوة للإصلاح وتكثير سواد أهلها مهما كانوا آمنين من الخوف.
(الطائفة الثانية) : سكان البوادي (وبعض أهل المدن) من العرب، فإنهم لم
يصبهم من ظلم الظالمين ما أصاب غيرهم لأنهم بمعزل عن سطوة الملك وقهر
السلطان , ولم يأخذ سلطان التقليد بأعنتهم , فيصرفهم عن استعمال عقولهم بالمرة.
إلا أن هذه الطائفة يعسر عليها أن تجاري المدنية الحاضرة إلا في استعمال آلات
الحرب والكفاح، فإذا أمكن بإصلاحها أن يكون للإسلام قوة يُحفظ بها جزء عظيم من
البلاد الإسلامية , وتكون بها الدولة عزيزة قوية - يمكن للمسلمين أن يقيموا بناء
مدنيتهم في ضمن دائرة هذه القوة , ووراء حصنها الحصين كما كان شأنهم في
مدنيتهم الأولى , وكما فعلت الروسية في نشأتها الجديدة.
كان المنار يدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تضمن لسائر الشعوب والملل
حقوقها في بلاد الإسلام على أكمل وجه , وهذه الوحدة الإسلامية لا يتيسر القيام
بتعميمها من مصدر واحد مع اختلاف لغات المسلمين ومذاهبهم وحكوماتهم
وأقطارهم ومذاهبهم؛ فينبغي أن يدعى للوحدة الإسلامية عملاً في كل عنصر من
العناصر والشعوب الإسلامية على وجه خاص بأن يضم إلى الكلام في الوحدة العامة
الوحدة الخاصة التي يحفظ فيها كل عنصر كيانه ويحمي حقيقته، فإن الخطر الذي
يتهدد العرب بابتلاع الأمم المتمدنة لهم لا يتهدد الترك الذين هم بين براثن أوربا
وأنيابها، فإذا كسر باب المسألة الشرقية ودخل الشرق الطامعون من كل جانب ,
فالمرجح ما قاله غير واحد من الباحثين في السياسة من أن الأتراك تنحصر سلطتهم
في بر الأناضول فلا يمس استقلالهم فيه أحد لأنهم ثم عنصر مستقل قادر على أن
يحكم نفسه بنفسه , ويُجاري أوروبا في مدنيتها , ولكن البلاد العربية تذهب فريسة
المطامع إذا تقلص عنها ظل الدولة العثمانية بهذا الانقلاب الهائل , والعياذ بالله
تعالى.
ومجد الإسلام إنما يحفظ بمجد العرب , فلابد من السعي لحفظه بالوحدة
العربية , واسم العرب يتناول اليوم مع أهل البادية في الشرق والغرب سكان البلاد
من العراق إلى مراكش شرقًا وغربًا فالإصلاح المعنوي يجب أن يكون عامًّا لبدوهم
وحضرهم كما يجب أن يكون عامًّا لسائر المسلمين , والإصلاح المادي على
ضربين: مدني وحربي، فالمدني يقوم به الحضر , ويتحدون فيه مع سائر الملل
الذين يشاركونهم في البلاد , والحربي يقوم به أهل البادية لأجل حمايتهم من العوادي ,
والعمدة في إعادة مجد الإسلام على الإصلاح المعنوي الأدبي، والمادي سياج له ,
ولابد أن يكون السعي في الوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية , ولا
يهيج علينا الدول الأوربية , وسنبين هذا في جزء آخر إن شاء الله.