للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٢) من أراسم إلى هيلانة في ١١ أغسطس سنة- ١٨٥
اعلمي أن تربية الطفل في الأسبوعين الأولين من حياته - بل يصح أن أقول
في الشهرين الأولين منها - تكاد تنحصر في مجرد وقايته مما عساه يؤذيه من
المؤثرات الخارجية , فهي ترجع إلى نوع من انتظار الفطرة ومراقبتها في عملها ,
وإعانتها عليه عند الحاجة.
إن المولود يدخل عند ولادته فيما اصطلح علماء وظائف الأعضاء تسميته
بالحياة المستقلة , ولكن ما أضعف استقلاله وأقل حريته , فإنه بما أودع فيه من
غريزة التغذي لا يكاد يُرى إلا ملتقمًا ثدي أمه فتكون معه كالغصن المطعم بآخر ,
فهو إذن تابع لغيره فقير إليه في غذائه وسد حاجات معيشته المادية , وما أخفى
معنى الإنسانية فيه وأبهمه وهو في هذا الطور من الحياة، فإنه لمَّا كان مغمورًا في
سحابة من الجهالة لم يكن فيه أول أمره على ما يرى من حالة أدنى إدراك ظاهر لما
يضطرب حوله من الأشياء.
مسكين ذلك المولود الأعمى ‍‍‍‍! فإنه لا يجد ثدي أمه إلا بتلمسه، نعم إن له عينين
لكنه لا يبصر بهما , وأذنين غير أنه لا يسمع بهما ويدين إلا أنه لما يتيسر له
أن يبطش بهما.
هذا المولود الذي هو وثن لأمه تعبده وتخصه بفرط محبتها، قريب الشبه
بالآلهة [١] الزمنى الذين سَخَرت منهم التوراة، لكنه على ما فيه من الضعف والعجز
قد خلقت له وظيفة مهمة يؤديها في العالم ألا وهي النمو.
فوظيفة الأم تكاد تنتهي إلى عدم إعاقة هذا العمل الفطري الخفي والتحرز من
تشويشه , وإني طالما أعجبت بما تهديه إليها في ذلك أنثى الطير من الأسوة الحسنة
فإنها لشد ما تعتني بحجب ذخرها الحي عن دنس الأنظار , وتبالغ في إخفائه بعشها
المستتر تحت أغصان الأشجار , والمرأة أقل منها دراية بما يجب للأولاد؛ لأننا
كثيرًا ما نراها تتخذ مولودها ألعوبة لشفقتها وحنانها.
وماذا نقول في أمهات ما ينفككن يرين الأجانب أولادهن، فيُدِرنهم من يد إلى يد
ويُهِجن انفعالاتهم بما يتصنعنه لهم من الحركات والإشارات , ويعذبنهم بالملاطفات
المنبعثة عن جنون الشغف بهم , أقول قولاً لا أود منك إذاعته وهو: إني أخشى
أنهن في ذلك ينظرن إلى تسليهن أو إلى زهوهن أكثر من نظرهن إلى مصلحة
الطفل.
والحذر الحذر أيضًا من بعض الأوهام الشعرية، فإن شعراء هذا العصر وكُتابه
قد بالغوا في إطراء الطفل، فإنهم قد حَبَّب إليهم الخيال أن يروا فيه ملِكًا نزل من
الجنة تاركًا فيها جناحيه.
إني في الحقيقة لا أعرف من أين أتى ولكن رأيي فيه هو أنه إذا كان قد رأى
عجائب في عالم آخر فقلما يذكر منها شيئًا , وأنه إنما يُحصِّل علومه جميعها بيننا ,
وسأبين لك في الرسالة التالية كيف يُحصِّل هذه العلوم. اهـ
(٣) من أراسم إلى هيلانه في ١٢ أغسطس سنة- ١٨٥
إن أول زمن في حياتنا نكون فيه أكثر تعلمًا وأشد تحصيلاً هو ذلك الزمن
الذي لا يعلمنا القائمون علينا فيه شيئًا تعليمًا نظاميًّا , فجميع الأمهات يعرفن أن
الطفل يترقى في تحصيل العلوم من الشهرين الأولين من حياته إلى أن يبلغ ستة
أشهر ترقيًا غير معهود في هذا السن , وقد حسب له بعض علماء وظائف الأعضاء
ما يكتسبه من العلوم وهو في سن شهرين إلى أن يبلغ سنتين أو ثلاثًا من عمره
فوجد أنه يكتسب منها ثلث ما يكتفي بتحصيله أوساط الناس , فأنى له هذه التربية
الأولى؟ نعم إنه لا ينكر أن لأمه دخلاً فيها , ولكن أخص مؤثر في تحصيله تلك
العلوم هو ملامسته لما يحيط به من الأشياء , وتناول مشاعره إياها فهذا الينبوع
الأصلي من ينابيع العلم الإنساني وأعني به الاحتكاك بالأشياء وتناولها بالحواس هو
الذي أريد توجيه فكرك إليه.
ولننظر ابتداء إلى ما يجري في الواقع، فالمولود في مدة الأسابيع الأولى من
ولادته يكون مخه لا يزال في غاية الرخاوة , وأعضاؤه المعدة لمعيشة الاختلاط بما
حوله في نهاية العجز عن إجابة داعي ما يختلف به من الأشياء إجابة يكون من
ورائها عمل , فإنه يرى جميع هذه الأشياء كأنها شفق فلا يميز منها شيئًا , ويسهِّل
لك الاقتناع بذلك ما ترينه فيه من الغفلة عن وجودها , وعدم المبالاة بها , ثم تتدرج
انفعالاته بعد ذلك في التيقظ لها فيكون مثله في هذا التيقظ بعد خموده كمثل صنم
ممنون [٢] يكون ساكتًا فإذا انصبت عليه أشعة الشمس جعل يصوت كما تعلمينه.
هذا هو شأن الطفل فإنه ينتعش بما حوله انتعاش ذلك الصنم بالشمس، إن سُمي
هذا انتعاشًا.
هل يتعلم المولود الإبصار والسماع أم يأتيانه عفوًا؟ تلك مسألة صعُب كثيرًا
على المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء الاتفاق على الإجابة عنها، فلهم فيها أقوال
مختلفة , ولكن الذي أجمعوا عليه أن المولود يتعلم بالتمرين إجادة هذين الفعلين ,
فليكفنا ذلك من جواب هذه المسألة , والحكمة في هذا أنه من السنن الإلهية أن كل
عضو يحسن عمل ما واظب عليه , وفوق ذلك فإن قوة الانفعالات عند الطفل تزداد
يومًا فيومًا بما يجده من اللذة في استخدام ما أوتيه من وسائل العلم الصغرى فقد قال
بسويه [٣] : إن لذة الاحساس قوية جدًّا.
الإحساس في الغالب يحصل في المولودين عفوًا من غير معاناة تعليم , فلا
يحتاج معظمهم إلى تعلم اللمس والذوق والإبصار والسماع , بل إنهم يجدون فيما
وهبهم الله من الغرائز ما يلزم من القوة لإجراء هذه الأفعال التي هي من مقتضيات
الحياة , ولكن أليس في قوة اقتداء الطفل بغيره ومنافسته إياه , وفي تخيله الأشياء
المحيطة به لتزداد رونقًا يستلفت نظره إليها ما يساعد على تنبيه مشاعره , ودفعها
إلى إجراء ما خلقت لأجله؟ إننا نرى في البهائم أن أنثاها لا تكف عن إرشاد
صغارها إلى استخدام حاستي السمع والبصر , وحملها على الانتفاع بهما وهذا
الإرشاد هو السبب على ما أرى فيما يوجد من القوى المدهشة لبعض الفصائل
الحيوانية.
كذلك المتوحش كما تعلمين يكاد يكون نصيبه من التربية قاصرًا على
المشاعر, ولشد ما برز علينا بهذا السبب في بعض القوى , فالعادة والرياضة البدنية
وطريقة المعيشة تنمي في الأجيال البدوية جملة أنواع من الإدراك خارقة للعادة في
دقتها وسعتها.
وإذا سأل سائل عن سبب فقد الإنسان بعض هذه المواهب الأصلية بتمدنه؛
اكتفينا في الجواب عن ذلك بتوجيه نظره إلى ما حصل في بعض أنواع الحيوان من
ضروب التغير عند انتقالها من حالة التوحش إلى حالة الاستئناس، فمن ذا الذي كان
يظن أن الأرانب إذا تربت في خابية نسيت بعد ثلاث بطون طريقة احتفار الأجحار
للسكنى بها , وهذا الخروف نفسه الذي نعتبره مثالاً للذل وسلاسة القياد والغباوة،
لم يكن كما نراه اليوم في جميع الأزمان، فإن أصله الذي تولد منه وهو الكبش
الوحشي على عكسه في الطباع؛ لأنه حيوان جريء يزهى بالمخاطرة بنفسه في
جبال قورصه [٤] , ويقاوم من يبتغي صيده من الصيادين , فجعله الإنسان خروفًا
أهليًّا بزربه - أي ببناء زريبة له - وتوظيف راعٍ للقيام عليه وكلاب لحراسته.
كذلك الإنسان كلما تهذبت أخلاقه بالتمدن وتحضر؛ تدرج في التخلي عن بعض
خواص معيشته الوحشية فأي حاجة تبقى له في أن يكون دائم التيقظ للمحافظة على
نفسه إذا كان غيره يسهر لحفظه وكلاءته , فمراقبة الحيوان المؤذي من بعيد
وإلصاق الأذن بالأرض لمعرفة خطا العدو من بُعد ألفي أو ثلاثة آلاف ميل لا
ضرورة لهما إلا في حق سكان أمريكا وأوستراليا الأصليين أما نحن ففي حالتنا
العمرانية ما يغنينا عن ذلك , فإن لنا الشرطي والجندي اللذين نستأجرهما ليدفعا عنا
ما نخشاه من أذى المعتدين وكيد الخائنين , فإذا زال الخطر الملازم للمعيشة البدوية
بالتحضر؛ وجب حتمًا أن يزول معه ما كان لحاستي السمع والبصر من الدقة
العجيبة التي هي عون وجدان المحافظة على النفس.
كأني بك تقولين: إن هذه المزايا الجسدية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب
القوى التي خلقها الإنسان في نفسه بارتقاء التمدن إن صح أن ينسب له الخلق , وأنا
بلا شك موافق لك في هذا , فإننا - والحق يقال- قد ربحنا من الحضارة أكثر مما
خسرنا , ولكن هيهات أن يقنعني هذا الفكر لأني أرى أنه كان يجب على الإنسان
في العصر الحاضر أن يستجمع في شخصه جميع المواهب التي كانت لمن عمروا
الأرض من قبله , وكوني على يقين من أننا لو بلغنا هذه الغاية ما عُد ذلك منا
إفراطًا في الغنى , ولا وصلنا في الحياة مطلقًا إلى درجة تكفي لأن نمثل فيها كل ما
من شأنه أن يحيا , وإن قوى الإدراك الحسية تكاد تكون في لزومها لفهم معنى
وجودنا مساوية للقوى الفكرية.
أما كون التمدن يزيد الثقة في المعاملات بين الناس ويقوي روابطهم الاجتماعية ,
ويغالب على الدوام العوامل الفطرية مغالبة يقلل بها جدًّا عدد البلايا التي تجعل
البدوي على خطر من حياته - فهذا كله في غاية الحُسن، وأما كون الشرطة تحفظ
الأرواح والأموال فهذا أمر لا أجد مساغًا للطعن فيه , وإنما كل الذي آسف عليه من
ذلك هو أن طريقة الحفظ هذه تصير مدعاة كسل وخمود لمشاعرنا , وقد أدركت ذلك
الأمم المتمدنة أنفسها تمام الإدراك فإنها قد أبقت من عاداتها القديمة بعض
الرياضيات البدنية التي لم يبق لوجودها أدنى موجب إن لم تكن قد اعتبرتها من
وسائل إحياء قوى الفطرة الأصلية , وذلك كالصيد وألعاب المبارزة والمصارعة
مثلاً.
ولو أن رجالاً تلاكموا في الطريق لقبض عليهم الشرطيون , وساقوهم إلى
المحاكمة مع أنهم لم يفعلوا إلا ما يفعله الملاكمون من شباننا في ملاعبهم الرياضية
(محال الجنباز) .
إني أرى - ما لم أكن مخطئًا أن الترقي في مجموع الآلات التي نستخدمها لسد
حاجاتنا لا بد أنه يستتبع زيادة التكلف في استعمال القوى العضلية بمجتمعاتنا , وإلا
لأصبح الإنسان عما قليل بسبب إحلاله الآلات محله في مشيه وعمله وكفاحه شبيهًا
بباشا غشيه خدر الترفه , وغرق في فتور البطالة [٥] فلابد لمنع تطرق الفساد إلى
النسل من انهماك الناشئين في كل أنواع اللعب التي هي في الظاهر غير مفيدة لكنها
في الحقيقة معدة لحفظ قوة الجسم , ولولا هذه الألعاب المقاومة للضعف والانحلال
لكانت اختراعاتنا نفسها سببًا في انحطاط الدولاب [٦] الإنساني من عرش سيادته.
العلم أيضًا يفرغ جهده , وينفذ مهاراته وحذقه في تكميل نقص أعضائنا بما
يوجده لها من طرق المساعدة في أداء وظائفها , وإني لكثير الإعجاب كجميع الناس
باكتشاف المنظار المقرب أو المرقب (التلسكوب) لأنه جم الفوائد , ولكن
المتوحش الأمريكي ذا الجلد الأحمر لا يحتاج في اكتشاف نقطة فوق الأفق إلى شيء
يطيل به بصره سوى ما استقر فيه من الاعتياد على إرسال أشعة بصره المجرد
لتنفذ في المسافات السحيقة , وتأتي إليه بصور ما فيها من الأشياء.
أليس في إعانة المشاعر بالآلات على القيام بوظائفها رفع جزء من ثقة
الإنسان بفطرته التي قضت بأن يفوق الوحشي المتمدن ولو من بعض الوجوه ,
وإني لا أريد بهذا (كما لا يخفى عليك) وجوب الاستغناء مطلقًا عن مكتشفات العلم
والصناعة , وإنما أريد به أن لا تتخذ مزايا المدنية ذريعة إلى إنشاء الطفل المتمدن
مترفًا جبانًا قصير النظر وأنه سيأول أمره إلى ذلك إذا اعتاد في كل شئونه على
ترقي وسائلنا الصناعية , ولم يجعل لنفسه وقوة أعضائه نصيبًا من ارتكانه عليهما.
ألا توجد طريقة لاسترجاع جزء من الخواص الأصلية التي أضاعها منا
الانغماس في التمدن؟ قد يوجد لذلك سبيل، فكثيرًا ما فكرت في الوظيفة العمرانية
للأصناف الإنسانية التي نعتبرها أحط من صنفنا لوقوفها عند أخلاق الطفولية ,
وسألت نفسي غير مرة عما إذا لم تكن هذه الأصناف معدة لسد خلل فينا , وهو
القضاء الذي يحول بيننا وبين حالتنا الفطرية.
الصنف الأسود في كثير من ولايات أمريكا الجنوبية هو الذي يُعهد إليه خاصة
بتربية مولودي الصنف الأبيض، فنساؤه مراضع بارعات لهؤلاء المولودين ,
والرجال يمرنونهم على حسن النظر والسمع , ولذلك كانت تربية الأحداث
الأمريكيين أوفق لمقتضى العقل بكثير من التربية عندنا , فإن المربين هناك
يجتهدون في أن يعطوا الأطفال مشاعر قبل أن يعطوهم عقولاً، على أن التعبير
بالإعطاء هنا خطأ؛ لأن التربية لا تعطي شيئًا للطفل , وإنما تنمي ما هو موجود
فيه , فكم من القوى الجسدية التي لا يشك في وجودها فيه تبقى كامنة بمجرد إغفال
استعمالها.
نعم إن مجتمعاتنا المؤلفة من أشخاص كبار في السن متأنقين لا تخلو من
منبهات المشاعر , ولكن هل تلائم أنديتنا وزخرفنا حالة الطفل الملائمة المطلوبة؟
كلا فإنه يولد محبًّا للاستطلاع مقلدًا لما يراه , ففي إيجاده في مثل هذه الأندية جذب
له إلى أذواق لم تخلق فيه , ولا تناسب سنه , وقلما يكتسب من يتربى من الأطفال
في هذه البيئة الصناعية الذوق الفطري فيما بعد , فأنا أفضل كثيرًا أن يتربى أميل
في الريف حيث يوجد كل شئ على حقيقته , ويصل إلى مخ الطفل قبل أن تغير
مواضعاتنا شيئًا من صورته.
جميع المشتغلين بوظائف الأعضاء معترفون بما لتربية المشاعر من الأهمية,
بل إن بعضهم قد أوصى باتخاذ بعض الرياضات لتربية البصر والسمع واللمس
وغيرها في الصغر , ولكني لا أخفي عنك أن مثل هذه الرياضات قليلة الفائدة فلا
تثقي بها كثيرًا , فإن كل ما يفكر الطفل بالرياضة والعمل يتعبه ويسئمه , فالواجب
على ما أرى أن يعتمد في تنبيه طرق الإحساس لهذا المخلوق الصغير على ما
يروق نفسه ويجذبها من غير أن يظهر فيه قصد التعليم والتربية.
والأم هي التي من وظائفها اختيار الانفعالات التي تنشأ من الأصوات
والأشكال والألوان والروائح والطعوم وتنويع هذه الانفعالات وتدريجها , فعليها أن
تجري في ذلك حسب مقتضيات الأحوال , والعالم الخارجي لا يقتضي سوى الولوج
إلى نفس الطفل من طريق مشاعره فيكفي في ذلك أن يبقى هذا الطريق مفتوحًا مع
تنبيهه عند مسيس الحاجة إلى ما يستحق التنبيه.
القوى الجسدية والقوى النفسية وإن كانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض
إلا أن بينها رابطة تربطها، فإن صحة أنواع التصورات ليست بمعزل عن صحة
التصديقات , وإن الذهن بما يتمثل فيه من صور المدركات يهيئ مواد الفكر ,
فيجب أن تكون تربية المشاعر ابتداءً مقصودًا بها تربية العقل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))