للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي

ولد في مدينة توقات من ولاية سيواس سنة ١٢٤٨ , وكان والده في الأستانة
فاستقدم بيته إليها , وأدخل عثمان أولاً إحدى مدارسها الابتدائية , ثم نقله إلى
المدرسة الإعدادية في سنة ١٢٥٨ , وكان أخوه أو خاله أستاذًا فيها , فعني بتعليمه
وتربيته , وبعد خمس سنين انتقل منها إلى المدرسة الحربية , وخرج منها في سنة
١٢٦٥ برتبة ملازم ثان في الفرسان وفي إثر ذلك كانت حرب القريم فجعل من
أركان حربها تحت قيادة عمر باشا فظهرت بسالة الفقيد ونجابته فيها , فترقى عقيبها
إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني , ثم إلى رتبة (قول أغاسي) وفي سنة
١٢٧٤ عين في اللجنة التي كلفت بتنظيم خرائط الأناضول , وفي سنة ١٢٧٦
صار رئيسًا لأركان الحرب في معسكر بكييشهر فظهرت براعته فيها أحسن ظهور ,
وكان في العسكر الذي أرسل لإخماد فتنة سوريا المعروفة بفتنة سنة ١٨٦٠
ميلادية برتبة بكباشي , واستقدم مع عسكره من سوريا لإخماد فتنة حدثت في كريد
وقد ارتقى ببراعته وبسالته فيها إلى رتبة قائمقام ثم أميرالاي وأنعم عليه بالوسام
المجيدى الثالث وكان ذلك في سنة ١٢٨٣هـ و ١٨٦٦م.
ولما كانت فتنة سنة ١٢٨٣ في اليمن كان الفقيد أحد قواد العساكر التي
أرسلت إليه فارتقى بعمله فيها إلى رتبة أمير لواء.
ولما عين قائدًا لفرقة يكى بازار نظمها أحسن تنظيم؛ فارتقى إلى رتبة
فريق وجعل قائدًا للأستانة العلية , ثم لأشقودره ثم لبوسنه ثم تعين رئيسًا
للمجلس العسكري في الفيلق الرابع.
ولما حاربت بلاد الصرب الدولة العلية كان قائدًا للفرقة الأولى في محاربتها
فدوخها , وألجأ أهلها إلى طلب الصلح , فارتقى بهذا إلى رتبة المشيرية , وأنعم
عليه بالوسام المجيدي الثاني , ثم وقعت الحرب بين الدولة العلية والروسية , فتولى
عثمان باشا قيادة ٦٨ طابورًا و١٧ كوكبة من الفرسان وأعطي ١٧٤ مدفعًا وكانت
له فيها الوقائع الهائلة التي كان فيها مثال الثبات والشجاعة والدراية في الفن
العسكري وقيادة الجيوش , وناهيك بما كان منه في حصار بلافنا فإن الروسيين
زحفوا عليه بقضهم وقضيضهم وعددهم وعديدهم , فصابرهم وكافحهم , وقتل منهم
الألوف , وهزم الزحوف بعدد قليل , ثم قطع عنه الزاد والإمداد , حتى لم يبق عنده
شيء يتلمظ به الجند , وهل ألجأ هذا الأسد للتسليم ما أصابه من البلاء الأليم؟ كلا
إنه نفخ في جنده روح الحمية والبسالة , وأمرهم بأن يخترقوا صفوف العدو بالقوة ,
وكان عددهم نحو أربعين ألفًا , وعدد الروس يزيد على مائة وخمسين ألفًا ومعهم
ستمائة مدفع، فأطاعوه واخترقوا صفين من المعسكر الروسي والنيران تنصب عليهم
كالمطر , وقبل النجاة باختراق الثالث أصيب القائد العظيم بالرصاص هو وجواده
فوقع جريحًا، فسلم جنده ظنًّا منهم أنه قتل.
وقد عرف الروسيون لهذا القائد الباسل فضله وقدروه قدره , فلم يعاملوه
معاملة الأسرى , بل أعادوه إلى بلافنا مكرمًا معظمًا؛ ليداوي جرحه , وكان دخلها
القيصر إسكندر الثاني وفي اليوم التالي من وصول عثمان باشا إليهم قابل القيصر
فوقف له وسلم عليه وجامله بالقول والفعل , ومما تناقله الركبان قول القيصر له:
(لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنًا ولا تقصيرًا , بل
دافعت عن وطنك أشد الدفاع وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا
وراءها , وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير , وإنما أنظر إلى بسالتك بعين
الاحترام والتوقير , وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى , وها أنا
ذا أعيد إليك سيفك , وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا
بجدارتك , وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك , فلك الخيار إن شئت ركبت
وإن شئت مكثت) .
وأمر بأن تضرب له خيمة بجانب خيمة الغراندوق نقولا القائد العام لعسكر
الروس , وكان الغراندوق يزوره كل يوم ويلاطفه ويسليه.
ولما ألقي السلم بين الدولة العلية والروسية في سنة ١٢٩٦هـ ١٨٧٨م وأطلق
سراح الأسرى عاد عثمان باشا إلى الأستانة فاستقبل فيها باحتفال عظيم , ومن
المستقبلين له عدد كثير انتهوا إلى مدخل البحر الأسود , ولما بلغها سار توًّا إلى
المابين الهمايوني حيث حظي بمقابلة مولانا السلطان , ولقي منه أجمل الالتفات ,
وتناول طعام العشاء في ذلك اليوم على المائدة السلطانية , وحضر العشاء معه
بالأمر السلطاني وكلاء الدولة وأكابر وزرائها , وكان مولانا أعزه الله يخصه
بالملاطفة على المائدة , وأنعم عليه في ذلك المجلس بالوسام العثماني المرصع ,
وقلده سيفًا محلًى بالذهب من آثار السلطان محمود خان عليه الرحمة، منقوش عليه
هذه الكلمة (للغازي) .
ثم عين مشيرًا للحرس السلطاني , ثم مشيرًا للمابين وفي ٢٢ شهر أيلول أو
تشرين أول من سنة ١٨٩٤ مالية عهد إليه بوزارة الحربية (سر عسكر) فبقي فيها
إلى ١٨ أيلول (سبتمبر) سنة ١٣٠٢ مالية , ففصل منها وبقي مشيرًا للمابين , ثم
أعيد إليها في ٩ أغسطس سنة ١٣٠٧ عقيب وفاة السر عسكر علي صائب باشا ثم
انفصل بعد مدة , وبقي مشيرًا للمابين إلى آخر أيام حياته فكانت مدة خدمته في هذا
المنصب ٢٢ عامًا كان فيها من مولاه محل الثقة الأول , وعليه المعتمد والمعول ,
وقلده في أثنائها أعلى وسامات الدولة- وسام الافتخار ووسام الامتياز والعثماني
والمجيدى المرصعات , وأنواع المداليا من ذهبية وفضية ولياقة وكريد , وحاز
وسامات الدول الأجنبية كلها من الدرجة الأولى ومنها أعظم وسام عند حضرة البابا.
وقد نال شرف المصاهرة السلطانية فإن نور الدين باشا أكبر أولاده تزوج
بدولة زكية سلطان , ونجله الثاني كمال الدين باشا تزوج بدولة نعيمة سلطان وهما
كريمتا مولانا أمير المؤمنين.
ولصاحب الترجمة عليه الرحمة ولدان آخران أحدهما جمال بك أفندي وهو
اليوم في برلين يشتغل بالتحصيل , ورتبته بكباشي في الجيش العثماني , وملازم
في عسكر بروسيا وسنه ٢٢ سنة , وثانيهما حسيب بك من حُجاب الحضرة
السلطانية أحسن الله عزاءهم جميعًا , وجعلهم خير خلف لخير سلف.
فعلم من مجموع ما تقدم أن هذا القائد العظيم قد ارتقى إلى الأوج الذي كان فيه
بجده واجتهاده , ولو أنه أعطي الرتب والوسامات من أول النشأة قبل أن يظهر منه
عمل من الأعمال لما نال ما نال , وأن مبدأ شهرته كان من ظهور بسالته في
حصار بلافنا , وقد جاء في الهلال أن كل أمة حاولت أن تدعي في إثر تلك الواقعة
أنه منها , فقال الأميركان: إنه أميركانى الأصل , وقال الفرنساويون: إنه
فرنساوي , وقال غيرهم مثل قولهم , والحق أنه تركي صريح كما مر , وهكذا شأن
الناس تدهشهم الوقائع الغريبة ولذلك لم تشتهر بينهم الوقائع التي أظهر القواد فيها
من البراعة في الفن العسكري ما يكاد يكون معجزًا كبعض وقائع دولة الغازي
مختار باشا التي قررت دولة ألمانيا أن تجعلها من الدروس العسكرية الدائمة , ولا
شك أن عثمان باشا هو ثاني (مختار باشا) في الفنون العسكرية علمًا وعملاً على أنه
كان جديرًا بكل ما ناله , وإن ذهب بعض الناس إلى أن للمداراة يدًا في ذلك , تغمده
الله - تعالى - برحمته , وأسكنه فسيح جنته آمين.