للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة التوحيد

قد نجز طبع (رسالة التوحيد) تأليف الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل الشيخ
محمد عبده، العضو العامل في إدارة الأزهر الشريف، ومستشار محكمة الاستئناف
في مصر.
أما الأستاذ فهو من آيات الحكمة البينات، فلا يزيده التعريف بيانًا. وأما
الرسالة فهي في فن الكلام غاية الغايات، لا تطاولها على اختصارها المطولات،
تحقيق بديع في أسلوب رفيع، وحكمة بالغة في عبارات سابغة، يعرف قدرها مَن
نظر في كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا العلم. أثبت مؤلفها - شكر الله سعيه -
في مقدمتها نبذة في تاريخ هذا العلم، ثم بيَّن حقيقة الدين المطلق، وأفاض في شرح
ما امتاز به الدين الإسلامي على غيره من الأديان السماوية الحقة، وكشف الحجاب
عن السر في كونه آخر الأديان، ومن جاء به خاتم النبيين، وحرر فيها مسائل
الخلاف الذي رَمَتْ أهل الاجتماع والتوحيد، بسهام التفريق والتعديد، فذهبت بهم
في دينهم مذاهب مختلفة، ولبَّستهم شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، غفلة عما
جاء به القرآن من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه. بيَّن أن ذلك الخلاف مما لا
يصح أن يكون مفرقاً لو نصف أحد الفريقين وطلب الحقيقة من غير عناد ولجاج،
ومراء في الاحتجاج، استدل بالعقل في موضعه، وبالنقل في موضعه، وسلك في
العقائد مسلك السلف. ولم يَعِِبْ في سيره آراء الخلف. وبَعُدَ عن الخلاف بين
المذاهب، بُعْده عن أعاصير المشاغب، فلا قيل ولا قال، ولا مراء ولا جدال، ولا
تمويه ولا تغرير، ولا تفسيق ولا تكفير، وقد راعى فيها حالة العصر، فأغمض
عن شبه المتقدمين ووساوسهم في الدين، وأسهب في الكلام على الرسالة العامة
وبيان حاجة البشر إليها، وعلى إمكان الوحي ووقوعه، وكونه كمالاً لنظام الاجتماع،
وطريقاً لسعادة البشر، ودفع ما يورده فلاسفة أوروبا من الاستدلال بسوء حالة
أهل الأديان عموماً، والمسلمين خصوصاً على نقيض ما ذكر من مَزِيّة الدين
المطلق، ومن كون الإسلام هو الدين الذي خاطب الله به البشر عند بلوغ النوع
الإنساني رشده، ودخوله في طور العقل، وأنه يمكن أن يكون عليه الناس كلهم من
مدنيتهم الحاضرة وما بعدها إلى يوم الدين.
وبالجملة: إن هذه الرسالة هي التي يصح تبليغ الدعوة بها في هذا العصر على
الشرط المعروف (وهو أن يكون على وجه يستلفت النظر) ، وأنها هي الدليل على
ترقي العلم عند المسلمين، فقد مرت علينا قرون ونحن نسمي النقل من الكتب تأليفًا،
وإن كان نسخًا يشبه المسخ، ظهر فيه للعيان أن كل عصر دون ما قبله، حتى
كدنا نجزم أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائماً في تدل وهبوط، والحق أن
سنة الله تعالى في خلقه أن يكونوا دائماً في تَرَقٍّ وصعود، وأن تدلينا وانحطاطنا كان
لعلل طارئة، وأمراض عارضة، والأمراض في الأمم كالأمراض في الأفراد.
ويسرنا أن الله تعالى أنعم علينا في هذا العصر بأطباء عارفين، يشرحون لنا عللنا،
ويصفون علاجها، وقد نقه منا أقوام وأبلَّ آخرون، ولا نزال إن شاء الله تعالى في
تقدم ونمو، ورفعة ورقي، وبالله التوفيق.
***
قرظ الرسالة بقصيدة غراء حضرة الشاعر الأزهري الأديب الشيخ حسين
محمد الجمل ابتدأها بمدح فضيلة الأستاذ المؤلف وانتقل إلى ذكر الرسالة، وقد رغب
إلينا أن ننشر القصيدة، ولكن ضيق المقام يحول دون نشرها بتمامها، فاقتطفنا منها
ما يلي، ترغيباً في العلم، وحثًّا على اجتناء فوائد الرسالة. قال - بعد أبيات -:
يميناً بما أولاك ما أنت أهله ... لقد غبطت نعماءك العجم والعرب
وما غبطوا نعماك إلا لأنهم ... رأوا لك فضلاً كل ثانية يربو
بك الشرق قد أضحى عزيزاً وطالما اسـ ... تطال عليه واستهان به الغرب
ولما أراد الله إسعاد أزهر الـ ... علوم وقد كانت معارفه تخبو
أتاحك مرعيًا فشيدت صرحها ... قوّمت منها هيكلاً كاد ينكب
ورصعت في التوحيد أسمى رسالة ... وضعت بها ما لم تحم حوله الكتب
فراحت بها تزهو عقود عقائد ... كاها على لألائه اللؤلؤ الرطب
فداؤك نفسي إذ جلست مبيناً ... سائلها لله فانجلت الحجب
ولم نر في الطلاب إلا مدرساً ... آخر منه في العلوم له قرب
وصمت بها آذان قوم نأت بهم ... خاف طباع عن نِدَاها فما لبوا
وليس لهم فكر سوى أن عندهم ... فاهة أحلام يضيع بها الطب