للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(باب الولد من الكتاب)
(٨) من أراسم إلى هيلانة في ١٥ يونيه سنة - ١٨٥:
لا سبب لانقطاع رسائلي عنك إلا ترقبي فرصة تمكنني من ايصالها إليك ,
وقد تلقيت مكاتيبك الأخيرة فأخذ ما ذكرتِه فيها عن (أميل) بمجامع لبي وبعث فيّ
دواعي الحنان والرحمة , ولم أكن إلى الآن أعرف شيئًا من ذلك في حياتي التي
قضيتها في دراسة العلم ومناظرة الحكماء ومقارعة خطوب الدهر , ولا غرو فإني
ولدت مستعدًّا للأبوة وأود لو أرى ولدي ولو بذلت في سبيل ذلك جميع ما أملكه من
الحطام , وإني مخبرك بأمر وإن كان لا ينبغي مكاشفتك به , وهو أني كنت عزمت
عدة مرات على دعوتك إلى الحضور إليَّ به على ما بيننا من البحار الزاخرة
والمسافات الشاسعة لعلمي بأن ما فيك من الإقدام ورباطة الجأش تتضاءل دونه
العوائق فلا يثنيك منها شيء عن تلبية دعوتي , وكأني بك بعد هذا تسألينني عن
السبب الذي منعني من هذه الدعوة ولا يزال يمنعني منها، فأقول: إنني قلت في
نفسي: ألا يكون من الأثرة أن أخمل بسجني ذاتين هما من أحب الناس إلي
وأخفض من حالهما؟ فبأي حق أستلب من هذا الطفل غرارته وغفلته وبواكير
سروره وابتهاجه بإلصاقه بي في محنتي التي خصني بها القدر؟ معاذ الله أن يكون
مني ذلك , فليشب وليترعرع حرًّا مغتبطًا في جناح والدته وكنفها.
أراك محقة في اهتمامك بتعرُّف أذواق (أميل) فإن الوالدين في الجملة
ينشئان أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق , على أن هذا الأمر هو الذي كان
ينبغي اجتنابه لأن الطفل إذا كان ألعوبة في أيدي الكبار المنوطين بسياسته , وآلة
تنفعل بمشاربهم وأفكارهم فإنه يعتاد على موافقتهم في جميع الأمور , وهذا هو
السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً صحيحًا في هذه الأيام , وإننا إذا فتشنا
عن العلة في وشك زوال ما فينا من أنواع الاستعداد والقابليات الخاصة والسير
الثابتة فربما وجدناها في تربيتنا الأولى فإنها مثار آفاتنا ونقائصنا النفسية.
ولنبحث ابتداء في ماهية الطبع فنقول: جرى اصطلاح العلماء بإطلاق هذا
اللفظ على مجموع من القوى المؤتلفة التي لا شك في أنها ترجع بأصلها إلى الفطرة ,
ولكنها على الدوام في تغير وتجدد لأسباب باطنية وظاهرية , فمن الأسباب
الباطنية الإرادة فإن لها شيئًا من التأثير في أهوائنا وشهواتنا ومحباتنا , وكأني
بسائل يقول: وهل هذه الإرادة نفسها خِلقية أو مكتسبة؟ فأجيبه أنها تجمع الوصفين
على ما أعتقد لأنها تكاد تظهر في الطفل بمجرد ولادته، وكلما شب وكبر قويت
وتحددت وجهتها بالتدرب عليها والممارسة لها. وأما الأسباب الظاهرية فيكفي أن
نمثل لها بالأسرة (العائلة) والتربية والاختلاط بالناس ومعاشرتهم فلو أن
الفرنساوي المسيحي ولد في الصين من أب نشأ على آداب كونفوشيوس [١] وتعاليمه؛
لكان مغايرًا لنا في آرائه وسيرته.
القوى المؤلف منها طبع الطفل تكون في الأيام التالية لولادته كأنها محجوبة
بإدراك مشاعره , وهو وإن كان في هذا الوقت يشعر بوجود ذاته بل إن هذا الشعور
قد يكون أحيانًا هو الغالب عليه , لكن ذلك قلما يبدو منه إلا بحركات إرادية وأعني
بهذه الحركات ضروب الرعدة والهياج , بل وأنواع الصراخ التي تصدر عنه فإن
كل ما من شأنه أن يُوَلِّد ألمًا أو يحدث غضبًا؛ يكون فيه مدعاة إلى ظهور هذه
العلامات الخارجية , وكثيرًا ما تبدو منه حركات نخالها مختلفة مغايرة للعقل لعدم
تدقيقنا النظر في السبب الذي يحدثها , ولو دققنا النظر لظهر لنا أنها لا تكون منه
إلا طلبًا لتحصيل لذة أو تخفيف ألم , ونحن بذلك جاهلون وعنه غافلون , فالغلام
الذي في الثانية أو الثالثة من عمره إذا طلب من مربيته شيئًا فمنعته إياه فاستلقى
على الأرض وأنشأ يتمرغ وينتف شعر رأسه غيظًا؛ تكون أفعاله هذه معقولة في
حقه لأنه يجد فيها بطريق الإلهام شفاء لأعصابه من تهيجها فيتلاشى بها حنقه
وتنكسر حدته , وكذلك الشأن في البكاء وغيره من الوسائل التي يزول بها عن
أعضاء الجسم ما تجده من الألم بسبب توتر أعصابها.
على أن بعض هذه الحركات الغريزية يبقى ملازمًا لنا حتى في زمن الرجولية
فإن كثيرًا من الناس من يضرب بيده على جبهته إذا بلغه خبر سيئ , ومنهم من
يزغزغ أنفه , ومنهم من إذا جاءت الأمور على غير مراده انبطح فوق فراشه ,
ومن هذا تعلمين أن أعقل الرجال تصدر عنه غالبًا وهو في شدة انفعاله حركات لا
تصدر إلا عن مجنون , وأنا لا أماري في أنه يفقد ما له من السلطان على نفسه في
هذه الحالة , ولكني أقول: إن في هذه الأفعال التي تصدر عن غير روية حكمة ,
وإن كنا لا نرى فيها إلا جنونًا وحمقًا ذلك أن للنفس حالات تقتضي من الجسم
أوضاعًا مخصوصة لعلة محجوب عنا علمها , فمن الآلام النفسية ما يميل بنا إلى
الهجوع والسكون , ومنها ما يدفعنا إلى المشي والحركة. فكيف السبيل إلى اكتناه
علة هذه البواعث الوقتية التي تدفع بعض أعضائنا إلى التحرك عند حدوث شيء
من الاضطرابات العقلية؟ لا سبيل لنا إلى ذلك سوى الاعتراف بأن الوصول إلى
معرفة هذا السر مما ليس في مقدورنا , وهو سر آخر جدير بالتفتيش عن سببه.
أول حرية تجب علينا للطفل هي أن يكون مختارًا في حركاته ومقتضيات
غرائزه , وإني كنت كغيري من الناس لا أحب أن أرى ولدًا مسكينًا يحمر وجهه من
الغضب , ويبلغ به الانفعال إلى درجة الجنون , ولكني أرى أن الإغضاء على
بوادر ذلك الغضب أخف ضررًا من قمعها بالإفراط في التسلط والقهر , فإنه لا
شيء أردأ مغبة في الغيظ من إكراه صاحبه على كظمه ولا أسوأ في الطباع ولا
أخس في الخلائق مما يقمع دائمًا , ويرغم صاحبه على إخفائه , على أن الطفل
سيتعلم في مستقبل أيامه أن من موجبات كرامته أن يملك نفسه عند الغضب ويكف
سورة انفعالاته , وأن البكاء وحركات الضجر وخفة الفرح الخارج عن حد الاعتدال
مما لا يليق بالرجال قطعًا , بل إنه سيكون كآلاتنا البخارية تحرق ما يتولد من
دخانها , ولكنا يجب علينا أن ننتظر في بلوغه هذه الغاية ريثما ينمو عقله وتقوى
إرادته.
أنا لست أعني بهذا أن يترك الطفل وما يعتوره من الانفعالات لعدم وجود ما
من شأنه أن يزيلها , كلا فإن الأطباء قد اخترعوا لعلاج الجنون طريقة سموها
التلهية النفسية يمكن اتخاذها في تربية الأطفال على ما أرى , على أنها معروفة
للمراضع من زمن لا تاريخ لمبدئه , فقلما توجد واحدة منهن لا تعرف كيف يسكن
غضب الطفل بصرف وجهه إلى ما يلهيه ويشغل فكره , ويمكن تعميم العمل بهذه
الطريقة فإن من الأطفال الحديثى السن جدًا من يكون لهم شغف بالموسيقى من
صغرهم , ومنهم من يسهل إلهاؤهم بمجرد النظر إليهم ومنهم من يجد في رؤية
الحيوانات لذة مخصوصة , ومنهم من يجد هذه اللذة في رؤية بعض الأشخاص ,
فينبغي النظر في هذه الأذواق الخلقية؛ لأن جميعها من الوسائل التي يمكن الاعتماد
عليها في تربية الطبع فيهم.
أنا لا أعتقد أن في الإنسان خلائق شَرِّيةً محضًا , ولكن يوجد من خلائقه ما
إذا غلبت عليه وأسيء تصريفها فإنها ربما تؤدي إلى عواقب وخيمة , فإذا سأل
سائل: هل يجب إعدامها؟ أجبته: ليس هذا من رأيى؛ لأننا مع تسليم إمكان
الوصول إلى هذه الغاية نكون قد خالفنا مقتضى الفطرة مخالفة ظاهرة , وإنما الذي
ينبغي علينا عمله هو معارضة تلك الغرائز بمشارب وأذواق أخرى.
إني أجد في نفسي ميلاً إلى اعتقاد أنه لا يوجد طبع - مهما كان فساده - إلا
وقد انطوت فيه وسيلة للخلاص منه فلو أن القائمين على التربية حذقوا في التدرع
بتلك الوسائل لمكافحة الطباع السيئة ومغالبة الأخلاق الرديئة في الوقت المناسب
لذلك؛ لحفظوا على المجتمع الإنساني كثيرًا من أفراده الذين خسرهم خسرانًا مؤبدًا
في السجون ومعاهد العقاب بالأشغال الشاقة , ولست أضرب لك تأييدًا لهذا القول إلا
مثلاً واحدًا أقتبسه من مذكراتي الخصوصية , حدثني لص أنه انزبق ذات ليلة في
ملهى موسيقي فجلس على أحد مقاعده لا ليسمع المغنين؛ بل ليرتقب فرصة تمكنه
من سرقة ما عساه يجده في جيوب مجاوريه , فإن هذا الأمر كان مهنة له , ولكنه
كان هو المسروق في تلك الليلة لأنه كان ذا كلف بالموسيقى فلم يكن إلا أن سمع
أول رنة للكمنجة حتى أحس بأن عقله قد سلب , ولما أنشأت المغنية دويريه تغني
صار إلى حالة أسوأ من ذلك لفنائه عن نفسه فيما وجده من اللذة في ذلك اللحن
المعروف بلحن الشيطان روبرت الذي في الفصل الخامس من تلك الرواية الغنائية ,
ويخيل له أن لا يزال يسمع رجع صداه , وجملة القول: إنه نسي الاشتغال بمهنته
تلك الليلة , فلما كان مساء اليوم الثاني عاد إلى ذلك الملهى نفسه عاقدًا نيته على أن
لا يفتن ببنت البحر [٢] ولكنه في هذه النية لم يحسب حساب نزيله الذي بين جنبيه،
أعني ميله الفطري إلى سماع الألحان فخرج في هذه الليلة أيضًا ممتلئ الأذنين
صفر اليدين , ومن أجل هذه الخيبة أقسم أن لا يعود فيضع قدميه حيث يكون
المغنون قائلاً: إنه إن فعل خسر ميله إلى حرفته , وهو قول دال على قحته
واجترائه على القبائح.
الأهواء الفاسدة في الإنسان هي قوى مستبدة يبعثها نموها الفطري أو المكتسب
على أن تملك قياده فتتغلب على ما فيه من ضروب الوجدان أو الأفكار , فمن
البديهي أن هذه الأهواء هي التي يجب أن تقاومها التربية من أول النشأة , وهذه
المقاومة يصح أن تكون على طريقتين أولادهما الرجوع إلى أنواع التلهية التي
تشغل الطفل عنها , وتصرف ذهنه إلى غيرها كما سبق لي بيانه. وثانيتهما -
جعله بمعزل عن البواعث الخارجية التي تهيج من غرائزه ما يغلب على الظن أن
في تحريكه وبالاً عليه , فإن في بعض الأشياء شيطانًا رجيمًا كما ستعلمين من
حادثة جرت في أيقوسيا أقص عليك خبرها لتفهمي ما أريده بالبواعث الخارجية
التي تهيج الغرائز.
إن امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد حوانيت الطرف , فلما انتقت
ما أرادت ابتياعه وحان وقت دفع الثمن , وكان في نحس طالعه كربع ساعة
رابليه [٣] أخرجت من جيبها ورقة مصرف (بنك) قيمتها خمسة جنيهات إنكليزية ,
فلما نقدها كاتب الحانوت لم يلبث أن عرف تزيفها , فبهتت المرأة المسكينة
وأخرجت له أخرى لكنها لم تكن بأحسن من الأولى , فارتاب الرجل في أمرها ,
وسلمها إلى الشرطة , ولم يكد التحقيق يأخذ مجراه حتى ظهر أنها كانت خادمة في
بيت استوجبت احترام أهله إياها بما لها من حسن السيرة والصدق في الخدمة , وأن
الأيقوسي الذي كانت في خدمته كان قبض من أحد معامليه قبل هذه الحادثة ببضع
سنين هاتين الورقتين المزيفتين وأخطأ في عدم تمزيقهما لتعاسة حظ هذه المحرومة ,
وأنها لاعتيادها على دخول حجرته في كل صباح للقيام بمقتضيات الخدمة كانت
تراهما مختلطتين بأوراق قديمة , فلم تعبأ بهما كثيرًا أول الأمر , ولكن لما تكرر
حضورهما أمام بصرها من يوم إلى يوم , ومن أسبوع إلى آخر , ومن شهر إلى
تاليه أنشأت تمعن النظر فيهما وكأن هاتين الورقتين اللتين كانت تخالهما على
بِلاهما صحيحتين كانتا ترنوان إليها من طرف خفي وتخدعانها وتفاجئانها بنصائح
غريبة , فرفضت بادئ بدء فكرة أخذهما وأبعدتها عن نفسها فراسخ , لكنها لم يبق
في وسعها أن تكف النظر عنهما متى وجدت في الغرفة التي هما فيها , ثم إنها في
ذات يوم لمستهما بيديها وبسطتهما , وأخذت تقلبهما , ثم ردتهما فورًا إلى أضبارة
الأوراق البالية التي كانت فيها كأن فيهما نارًا كانت تحرق أصابعها , وما زال بها
هذا الإغراء حتى غلبها وأوقعها فيما علمت.
فإذا كان هذا تأثير الأشياء في الكبار فما ظنك في الصغار؟ نعم , إنهم ولله
الحمد ليسوا كلهم لصوصًا , وفوق ذلك قلما تعرض لأنظارهم أوراق المصارف
صحيحة أو مزيفة , ولكن توجد جملة من الخلائق الأخرى التي يهم المربين أن لا
يقوُّوها فيهم بنظر ما يوقظها من الأشياء، فإن رذائلنا وفضائلنا ليست مجرد معانٍ
ذهنية , بل إن لها بالخارج ارتباطًا قويًّا فهي تطابق فيه أمورًا وأحوالاً شتى يكون
بها تأثرها وعنها انفعالاتها... فالشراهة مثلاً تتحرك في الإنسان بنظره إلى الطعوم
وشمه روائحها , والغيرة تتيقظ فيه بسماعه ما يقال لغيره من رقيق الكلام , ورؤية
ما يعامل به من صنوف الملاطفة. فأول واجب على المربي هو البحث عن طبع
الطفل ومعرفته , والواجب الثاني هو أن يقطع عنه مواد الفتنة أعني البواعث
المادية التي تتخذ مشاعره ذرائع لإغراء طبائعه السيئة وإثارتها فلكثير من الأطفال
الحق في أن يقولوا للقائمين عليهم ناشدناكم الله لا تدلونا بغرور.
ثم لا ينبغي أن يغرب عن ذهن المربي هذا الناموس الفطري وهو أن الطبائع
والغرائز كما أنها تقوى وتنمو بالممارسة هي تضمحل وتزول بعدمها , فبه تعرف
السر في قدرتنا على قمع بعض المشارب الشديدة التي تظهر في الطفل على أذواقه
الفطرية الأخرى , وتمنعها من بلوغها غايتها , فأكبر عمل للإنسان في إصلاح نفسه
منفردًا هو مكافحة ما يتغلب عليه من سيء الأخلاق ورديء الطباع كما أن أجل
سعي في إصلاح شأنه مجتمعًا هو ردع المعتدين وكسر نخوة الطغاة الظالمين.
كأني بقائل يقول: هل يكفي في تربية الطفل ما ذكرته من جعله بمعزل عما
يثير فيه غرائز الشر وإيجاد التوازن والتساوي بين طبائعه؟ فأجيبه: لا شك في
عدم كفاية ذلك فإن طريقة التربية هذه سلبية والواجب علينا هو أن ننبه في الطفل
بمجرد أن يشب ضروب المحبة وعواطف الخير , وقبل الخوض في هذه المسائل
يجب علي أن أبحث أولاً فيما تتخذه الناس من الطرق عادة في تربية طبع الطفل
كحمله على الامتثال المطلق , وتخويفه بالعقوبات , وترغيبه في المكافآت , وكقوة
القدوة والاعتقاد الديني , وقواعد علم الأخلاق , وأسائل نفسي عما تساويه
هذه الحيل المختلفة اهـ.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))