للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


هانوتو والإسلام

سأل أحد أفاضل مسلمي بيروت صديقًا له من أدباء المسيحيين مقيمًا في مصر
القاهرة رأيه , وما وصل إليه علمه في شأن المناقشات التي بنيت على مقالات
هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في الإسلام لا سيما صحة الترجمة؛ فأجابه
بكتاب نذكر منه في هذا المقام ما يأتي:
(مقال هانوتو الذي سبب حركة الأفكار واهتزاز الأقلام قد طالعته مرارًا
باللغة الفرنسوية , وترجمة المؤيد غير مغلوطة , ولكن المسيو هانوتو عندما نقل
كلام كيمون كان غير مرتاح إليه , وتهكم صريحًا على أفكاره , وعلى الحل
المتناهي في الغلو الذي زعم كيمون أنه يريد أن يحل به المسألة الإسلامية , فمترجم
مقال هانوتو في المؤيد قد حافظ المحافظة التامة على الأصل فاكتفى بأن يضع إشارة
الاستفهام الإنكاري , والنقط التي تتبعها , غير أن قراء لغتنا العربية لم يتعودوا على
إدراك سر هذه النقط التي اصطلح عليها الفرنجة ولهذا التبس المعنى , وظن
الكثيرون أن هانوتو يصادق على كلام كيمون , ومع ذلك فقد استأنف الكلام وعاد
ثانيةً إلى الإسلام وتبرأ مما نسب إليه , وصرح بميله واحترامه الإسلام
والمسلمين , وترجم مقاله المؤيد , وتبعه في ذلك الأهرام أيضًا.
ثم دخل اللواء في مضمار المباحثة , وتكدر منه محرر الأهرام الفرنسوي
(وهو شاب استقدمه تقلا باشا من باريز) وطلب مصطفى بك كامل إلى المبارزة ,
وتبع ذلك أقاويل مختلفة , وأقيمت الدعوى من تقلا باشا على صاحب اللواء وتشاتم
الفريقان , وانحاز إلى كل فريق أنصار ومريدون.
مولاي , لو اكتفى المؤيد واللواء بما كتبه ذاك الإمام العظيم؛ لخدما حقيقة
الإسلام لأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم , ولم يكن لرد الإمام
الوقع العظيم في نفوس المسلمين فقط , بل إن كثيرين من أفاضل النصارى قد أجلوه
كثيرًا وأحلوه محلاًّ كريمًا , ولا أبالغ إذا قلت لسعادتكم: إنني قرأته أكثر من
عشرين مرة.
دين الإسلام كله شهامة ومروءة وحرية ومدنية طاهرة , غير أن كيمون
والذين على شاكلة كيمون قد تلقوا كل ما هو معاكس لروح الإسلام والمسلمين وبعيد
عن عقائدهم وأدابهم وأخلاقهم , وكتاب الفرنجة لا يراعون العواطف في اندفاعهم ,
وقد كتب الكثيرون منهم في الطعن على السيد المسيح وعلى طهارة والدته وعلى
كرامة تلامذته , وتصدى منهم فريق عظيم للتوثب على الأحبار الأعاظم , وقالوا
فيهم الأقوال الشائنة التي ترتعد لها فرائص الأداب والفضيلة , فالقوم الذين بلغ بهم
التمادي والغرور إلى هذا الحد أيليق أن نترجم أقوالهم ونذيع ترهاتهم على رؤوس
الأشهاد ونحرك ما كمن من الأحقاد؟
إنني أستحلفك بدينك القويم الذي أشرق بنوره الوضاح على البصائر المظلمة؛
فأنارها , وعلى العقول المقيدة فأرشدها وحل عقالها , وعلى القلوب المتسكعة فأيقظها
وقوم اعوجاجها - أن تحرك قلمك وتغمزه إلى الغاية المحمودة وذلك في
استنهاض همم فطاحل كتاب المسلمين للذود عن الإسلام بالطرق التي يريدها الإسلام،
والطرق التي يريدها الإسلام لا تخفى على أفاضل المسلمين الذين أشربت قلوبهم
محبة الائتلاف والموادعة والمسالمة وتحريض الأمة على اكتساب الفضائل السامية
في إكرام الجار , وتعزيز حقوق الجوار , ومعاملة عباد الله بطرق المساواة والعدل
والولاء.
يوجد كثيرون من الذين لم يتشرفوا بالدين الإسلامي على ضلال مبين في
أفكارهم وظنونهم نحو الإسلام والمسلمين , ولكن ضلالهم لا تعفو آثاره إلا البراهين
القاطعة والحجج الدامغة التي تثبت لهم أن دين الإسلام دين الحرية المطلقة والحنان
الصادق والشهامة الحقيقية والمحافظة على الأعراق وكرم الأخلاق والعرض
والإخلاص والوفاء.
أتظن يا مولاي أن كيمون يقذف من فيه تلك الأقذار لو كان قرأ في زمانه
فصلاً واحدًا من الفصول التي دبجتها أنامل الإمام علي كرم الله وجهه.
أتظن أنه يجرؤ على التلفظ بذاك الحل الهائل الذي يريد أن يحل به المسألة
الإسلامية لو كان سمع بحلم وحكمة العُمَرين وكرم ابن زائدة وعدل الرشيد وسخاء
البرامكة؟ .
أتظن أنه يحرك قلمًا لو علم بأن أحقر رجل من المتدينين بدين الإسلام يهرق
آخر نقطة من دمه في الذود عن عرض وكرامة الملتجي إليه عندما يسأله الحماية.
مهما كان كيمون والذين على شاكلته في غرور وضلال فإنهم لا يستطيعون
بعد معرفة الإسلام إلا الثناء على الإسلام والافتخار بفضائل الإسلام.
وكنت أود من صميم الفؤاد أن أضم صوتي إلى أصوات مقرري الحقيقة
وأنصح أفاضل المسلمين أن يتخذوا الخطط الصائبة في مجادلاتهم وكسر شرة
المتوثبين عليهم , فالحق - أيدك الله - في جانبهم غير أن بعض جهالهم يريدون أن
يصرعوه في تطفلهم على صناعة التحرير والتحبير , ولا أكتم على سعادتكم شيئًا
فإن الأقلام التي تحركت من بعد رد الإمام المعتدل المحكم لم تأت بشيء من الفائدة ,
بل أضاعت أو أوشكت أن تضيع الحق الذي بجانبكم , وتسبب حركة لا يرضاها
عقلاء الأمة الإسلامية عن القاهرة في ٩ يونيو سنة ١٩٠٠. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ج.ع
(المنار)
نحن تحامينا الخوض في المجادلات عندما حمي وطيسها , وكنا
غير راضين عن الذين تهوروا منا فطعنوا في الديانة النصرانية نفسها بما لا يتعلق
بالرد , ورأينا من نعرف من أفاضل المسلمين معنا في هذا الرأي , وقد نشرنا كلام
هذا الكاتب الأديب المسيحي لما فيه من روح المودة الذي نحن في أشد الحاجة إليه
ولا شيء ينفخ روح الهدوء والائتلاف مثل الاعتدال والإنصاف.