للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية العرب
النبذة الأولى
مقدمة تمهيدية
اليوم نبدأ بالوفاء بما وعدنا به في الجزء التاسع من الكلام في مدنية العرب ,
ولهذا الكلام فوائد ننبه عليها في فاتحة القول؛ لأن العلم بالفائدة والثمرة ينبغي تقديمه
كما قالوا ليكون الطالب على بصيرة فيما يطلب فينتفع به.
(الفائدة الأولى)
وهي أهمها، بيان أن تلك المدنية ما نالها العرب إلا بدينهم لأنهم كانوا قبل
الإسلام أبعد الأمم عنها , وبهذا تسقط شبهة الذين يزعمون أن دين الاسلام هو
الحجاب المسدول بين المسلمين وبين المدنية الحاضرة في هذا العصر؛ لأن الشيء
الواحد لا تصدر عنه آثار متناقضة متباينة. وهؤلاء الزاعمون كلهم لا يعرفون
حقيقة الإسلام , وإن كان منهم من ينتسب إليه ويلبس لباس خواص أهله.
(الفائدة الثانية)
إزالة شبهة الذين يحتقرون هذا الشعب (العربي) الشريف , ويتوهمون أنه
لا قابلية فيه للمدنية والارتقاء , وإن تسنى له من أسبابهما ما تسنى لأن له طبيعة
خاصة به , وهي الجهل والتفرق والبعد عن النظام والاستبداد بالحكم وغير
ذلك من النعوت القبيحة التي يرمينا بها الجاهلون بتاريخنا وبطبائع الملل.
(الفائدة الثالثة)
استنهاض الهمم وحث النفوس على إحياء مجد أمتنا السابق واسترجاع ما
استأثر به الأجانب من تراث سلفنا الصالح، وهو العلوم النافعة والأعمال الرافعة
والسجايا الحميدة والمآثر المفيدة؛ لنُساير بذلك الأمم الحية ونُجاري الشعوب
المرتقية قبل أن تغمرنا سلطتها ونذوب فيها ذوبانًا حتى لا يبقى لنا هيئة ملية
نتميز بها.
(الفائدة الرابعة)
معرفة التاريخ الصحيح على الوجه الذي يعطي صاحبه البصيرة ويمنحه
الاعتبار , فإن ما كتب في التاريخ العربي لم يكتب على الطريقة الحديثة التي تتجلى
فيها الحوادث بعللها وغاياتها , وتتمثل الحقائق بمقدماتها ونتائجها , ويوضع كل
شيء في موضعه , ويقرن كل أمر بملائمه ومناسبه , ويتبع هذه الفائدة ما في
التاريخ من الفوائد الكثيرة.
العناية بتاريخ العرب والعمل لإحياء مجد العرب هو عين العمل للوحدة
الإسلامية التي ما وجدت في القرون الأولى إلا بالعرب , ولن تعود في هذا القرن إلا
بهم متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس لأن المقوم لها هو الدين الإسلامي نفسه
وإنما الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام , وهما عربيان , ولا
يفهم الدين من لا يفهمهما فهمًا صحيحًا , ولا يفهمهما أحد على هذا الوجه إلا اذا كان
يفهم لغتهما الشريفة , ومن كان له هذا الفهم فهو عربي باصطلاحنا لأننا لا نعني
بالعرب من لهم نسب يتصل بإحدى القبائل العربية فقط؛ إذ ليس غرضنا التعصب
للجنسيات , بل إن هذا مما نُنَفِّر عنه ونذمه , وننتقد كل من يقول به.
المدنية العربية التي نفتخر بها لم يكن رجالها من صميم العرب أصحاب
النسب الصريح , ولكن الأعجمي منهم لم تكن علومه ومعارفه بلغته الأعجمية ,
وإنما كان الباعث له عليها والراقي بهمته إليها هو النور الذي أشرق في أفق عقله
من سماء البلاد العربية , والديانة التي تلقاها باللسان العربي. ولقد صدق الحكيم
ابن خلدون في قوله: (إن مثل الزمخشري وعبد القاهر من فرسان الكلام وجهابذة
اللسان العربي لم يكونوا أعاجم إلا في النسب فقط) .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذه المقدمة أن بعض المتنفجين الذين يدَّعون
بأكثر مما عندهم يرون أن الكلام في مدنية العرب وتذكير هذا الشعب الذي يحكم
الفقه الإسلامي بأنه أفضل الشعوب بمجد سلفه وحثه على العلوم والأعمال النافعة -
كل ذلك مضر بالمسلمين لأن غايته نزع الخلافة الدينية من بني عثمان , وهو
تفريق يعود على الأمة بالخيبة والخسران , ويروج هذا القول الزائف على البسطاء
هذه الكلمة الصحيحة , وهي أن محاولة نزع الخلافة من العثمانيين فيه تفريق
المسلمين وبلاء كبير على الأمة , ولكن هذا التفريق وما يتبعه من البلاء والشقاء
ليس لازمًا من لوازم العلم والتهذيب والعمل والكسب التي يستحيل أن تنهض أمة
وتحفظ وجودها بدونها , ولو فرضنا أن ذلك من لوازمها لما كان لنا أن نتركها لأن
ترك هذا الملزوم أو الملزومات أشد ضررًا وأعظم خطرًا. وكأني بالأحمق الذي
يقول بهذا التَّرك يرتأي أن يبقى أشرف عناصر الأمة الإسلامية في الدرك الأسفل
من الجهل والغباوة والفقر والفاقة والذل والمهانة لأجل المحافظة على لقب (خليفة)
في أسرة مخصوصة , وإنما قلت: المحافظة على اللقب؛ لأن الخلافة الحقيقية لا
تثبت لآل عثمان فضلاً عن غيرهم إلا بقوة الملة والدين , وهذه القوة منبعها العرب
وسياجها العلم والثروة , فيجب أن يكونا عامَّين في العرب كغيرهم بل العرب
أولى بهذا وأجدر. على أن الجهل والفاقة مثاران لكل بلاء وشقاء , فما دام العرب
على جهلهم وفقرهم لا نأمن أن يغش بعض أمرائهم غاش من الأجانب فيحمله على
طلب الخلافة , والأمة الجاهلة تكون مستعبدة لأمرائها وحكامها , فيتم بذلك التفريق
المخوف والعلم هدى ونور، فإذا فشا في الأمة تأمن به كل غائلة ونائبة حتى إذا
تسنى لأجنبي أن يغش أميرًا منها لا يتسنى له أن يغش معه الرأي العام , وما دام
الرأي العام على بصيرة فلا خوف ولا خطر لأن القوة التي لا تبالغ ولا تقاوم هي
قوة الشعب والأمة.
وقد بينا رأينا في مسألة الخلافة من قبل , وفندنا أقوال المرجفين الذين
يزعمون أن من المسلمين من يسعى لها سعيًا , وأثبتنا أن هذه غاية لا تدرك بسعي
أمير من الأمراء أو جمعية من الجمعيات , وأن الخوض فيها مضر لأنه يوهم
البسطاء إمكان نزعها من قرابها وتحويلها من مكانها والأمر منوط برأي السواد
الأعظم من الأمة , وأين رأي السواد الأعظم من لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين
وأي جاهل يقول: إن السواد الأعظم إذا أقرّ على شيء يكون ذلك الشيء تفريقًا؟
وهل للاجتماع والاتحاد معنى إلا هذا؟ .
نعم لقائل أن يقول: إن المنار قام منذ إنشائه يدعو إلى الوحدة الإسلامية
ويخاطب بكلامه الأمة كافة وينعي على من يقول بالوطنية والجنسية , فكيف قام في
هذه الأشهر ينوّه بالعرب خاصة ويخاطبهم بالإصلاح من دون سائر الأجناس؟
والجواب عن هذا يفهمه الذكيّ النبه من المقالات السابقة , ونزيده إيضاحًا مراعاة
لسائر الأفهام فنقول:
إننا في مقالاتنا (الوحدة العربية) و (الترك والعرب) لم نخرج عن التوحيد
والتأليف بين العناصر كلها , وإنما أشرنا إلى عرض نزعات التعصب الجنسي عند
الترك لأن الطبيب لا بدّ له من تشخيص المرض والتعريف بالداء قبل وصف
الدواء وطرق العلاج , و (من كتم داءه قتله وأماته) ولا شيء يقربنا من
إخواننا الأتراك ويجعل لنا قيمة في نفوسهم وبهاء في أعينهم، إلا اعتقادهم بأننا
شعب يفهم ويشعر، فيُسر بالكرامة ويتألم من الإهانة , وأن مسرته نافعة لهم
وتألمه ضار بهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) وقد صرحنا من قبل بأننا لا
نعني بالوحدة العربية أن ينفصل العرب عن سائر المسلمين أو عن الترك خاصة ,
بل نعني به أن كل شعب يجتهد في ترقية نفسه ملاحظًا أن في ترقيه ترقيًا لسائر
الشعوب التي تتكون منها الأمة , وسعادته من متمات سعادتهم , ولكننني لا أنكر
أنني أرجو أن يظهر تأثير كلامي في قومي (العرب) الذين يقرءونه ويفهمونه ,
وهذا ما يحملني على أن أخصهم بالذكر أحيانًا , وأن من الجرائد الإسلامية من لا
يتكلم في المواضيع الإرشادية إلا مع أهل بلاده خاصة حتى إنه لا يتجاوز ذلك إلى
إرشاد جيرانها من الناطقين بلغتها كما ترى في أكثر الجرائد المصرية بالنسبة للبلاد
السورية والحجازية والمغربية وذلك أن الإنسان يراعي في مثل هذا الأقرب
فالأقرب , على أننا اقترحنا في مقالات الإصلاح الديني التي نشرت في المجلد
الأول أن يكون بين علماء المسلمين وخطبائهم وكتابهم روابط وتعارف ومشاركة في
الفكر لأجل أن يكون الإرشاد على طريقة واحدة والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
((يتبع بمقال تالٍ))