للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المشروع الحميديُّ الأعظم
سكة حديد الحجاز

سرور المسلمين بالمشروع. غلط الواهم بمضرته , غير المسلمين ممنوعون من
الحجاز رسميًّا , استعداد الإفرنج لدخول الحجاز بالتظاهر بالإسلام , الخطر على
الحجاز من البحر دون البر , إمكان إماتة أوربا أهله بالجوع إذا لم توجد هذه
السكة , مقاصد الأعداء في الكعبة والقبر الشريف. ردة الجهلاء إذا وقع بهما
سوء. وجوب مساعدة المشروع دينًا.
لقد رقصت قلوب المسلمين جذلاً وسرورًا لمشروع السكة الحديدية الحجازية ,
وهتفت ألسنتهم بالثناء والدعاء لمولانا السلطان الأعظم لتوجيه عنايته الشريفة إلى
هذا العمل المبرور الذي يرضي الله تعالى ويرضي الرسول (صلى الله عليه وسلم)
في ملحودة قبرة الشريف.
ولا التفات لذي نظرة حمقاء يتوهم أن في المشروع مضرة لأنه يسهل على
الأوروبيين دخول البلاد المقدسة متَّجرين، وهي الوسيلة الوحيدة لنفوذ سلطتهم فيها ,
وربما يجيء بعد ذلك يوم من الأيام يزحفون عليها بقوة عسكرية لحماية رعاياهم من
ضرر يتوقع نزوله بهم كما هو المعهود منهم في كل بلاد شرقية يعتدون عليها.
وكأن صاحب هذا الوهم يعتقد أن المانع الآن للأوروبيين من دخول البلاد الحجازية
هو حزونة الطريق وبُعد الشُّقة , والصواب أن المعاهدات التجارية بين الدولة العلية
وسائر الدول الغير المسلمة تُستثنى منها تلك البلاد الشريفة، فهم ممنوعون من دخولها
منعًا رسميًا متفقًا عليه لأنها معتبرة معبدًا من المعابد الإسلامية كالجوامع , ومن
دخلها مستخفيًا وسُفك دمه فالدولة العلية لا تسأل عنه مطلقًا. وهذا المنع الرسمي
هو الذي جعل المولعين بحب الاكتشاف من الأوربيين إذا أرادوا التسلل للوقوف
على شئون البلدين المكرمين وما يكتنفهما من البلاد العربية يستعدون لذلك زمنًا
طويلاً يتعلمون فيه لغة شرقية كالعربية أو التركية أو الفارسية أو الأوردية ,
ويتعلمون العبادات الإسلامية كالطهارة والصلاة ومناسك الحج , ثم ينسلون مع
الحجاج , ويؤدون معهم المناسك ويستخفون أشد الاستخفاء في أخذ رسوم البلاد
بالفوتغرافيا حتى إن أحدهم جعل الآلة الفوتغرافية في نوط الساعة. ولم ينس قراء
المنار ما قصصناه عليهم في المجلد الأول من خبر ذلك الأوروبي الذي أراد اكتشاف
البلاد الحجازية وغيرها من شبه جزيرة العرب فاستعد لذلك بإظهار الإسلام وتعلم
العربية وأخذ شهادة من أشراف حلب بأنه قرشي هاشمي النسب , وصدق على نسبه
هذا في الأستانة العلية وأخذ عليه فرمانًا شاهانيًّا , ثم كان من أمر دخوله ما كان
وكتب عن تلك البلاد ما كتب. فلو أن دخول البلاد الحجازية مباح للأوروبيين لما
احتاج مثل ذلك الرجل وغيره إلى كل ذلك العناء في التوسل إليه.
وأكثر الناس يعرفون أن الوصول إلى مكة المكرمة من جدة والمسافة بينهما
تعد بالساعات أيسر من الوصول إليها في السكة الحديدية التي تمتد إليها من الشام
حيث المسافة تعد بالأيام. هذا وإن التجار الأوربيين لا نجاح لهم في مثل دمشق
وطرابلس ونحوها من البلاد التي يغلب عليها العنصر الإسلامي، فكيف تروج
تجارتهم في مكة والمدينة والقياس على البلاد المصرية قياس مع الفارق , فإنه
لا يوجد في الدنيا كلها بلاد تعظم الإفرنج وتحترمهم كهذه البلاد , والسبب في ذلك
أمراؤهم كإسماعيل باشا وغيره.
لا ريب في أن الرغبة من الإفرنج في دخول تلك البلاد محصورة في أهل
العلم والسياسة , وأما الحصول على هذه الرغيبة جهرًا فهو غير مطموع فيه ما دام
للدولة العلية صفة رسمية في أوربا , وما دام الأوربيون يرون أن تهييج الرأي العام
الإسلامي مضر بهم وعاقبته وخيمة عليهم. ولكن لا نأمن أن يجيء يوم من الأيام
يفور فيه التنُّور ويؤمَن المحذور وتتصدى الدول الأوروبية كلها أو بعضها لتدمير
الكعبة المشرفة ونقل قبر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام إلى متحف اللوفر
عملاً بنصيحة كيمون ومن على شاكلته , ولا يمكن أن يكون زحفهم عن طريق
الشام لتكون هذه السكة الحديدية عونًا لهم لأن هذا يحتاج أولاً إلى تدمير البلاد
الشامية نفسها وإفناء أهلها , وعندما تشتعل النار في الشام يمكن للعربان الضاربين
بين القطرين أن يقتلعوا القضبان الحديدية , ويمحوا أثر هذه السكة الحديدية إما بعد
بعث البعوث عليها لنجدة أهل الشام , وإما قبل ذلك , فكيف يختار الأعداء هذا
الطريق المحفوف بالأخطار على طريق جدة القريب؟ . وإذا هم زحفوا من جدة
فسكة الحديد هي الوسيلة الوحيدة لحماية البلاد المقدسة منهم لأن الدولة العلية لا
يتسنى لها في عشرات السنين أن تنشئ لها أسطولاً كأسطول فرنسا أو إنكلترا فما
بالك إذا اتفق الدول يومئذ اتفاقهن الآن على الإيقاع بالصين.
هذا ضرب من الاستعداد للمستقبل , ونرجو الله أن يقينا شواظ ناره ويحفظنا
من أخطاره. وثم خطر أقرب من هذا حصولاً وهو إمكان إماتة أهل البلاد
الحجازية بالجوع. من المعلوم أن تلك البلاد ليس فيها من القوت ما يقع أدنى موقع
من كفاية أهلها فمعظم أهلها من بدو وحضر يقتاتون مما يرد إليهم من الخارج ,
وأكثره الأرز الهندي الذي تفرغه البواخر الإنكليزية في مواني البحر الأحمر كجدة
وقنفذة، فإذا تسنى لإنكلترا أن تستبد بالبحر الأحمر وهي الآن صاحبة النفوذ الأكبر
فيه باحتلالها لمصر وامتلاكها لعدن فإن حياة البلاد الحجازية تكون حينئذ في قبضتها ,
وإذا كانت أوربا تحول دون هذه الأمنية الإنكليزية فهل من البعيد أن تتفق دولها
البحرية مع الإنكليز على منع البواخر العثمانية من العبور في قنال السويس. وإذا
كان هذا والعياذ بالله تعالى فهل يكون إلا لمنع الحج ومنع دخول القوت إلى بلاد
الحجاز؟ كلا إنه ليس لنا ما نتلافى به هذه الأخطار المتوقعة إلا هذه السكة الحديدية
التي تصل البلاد الحجازية ببلاد الشام الخصبة القوية , ولذلك توجهت إليها عناية
مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى فيتحتم على كل مسلم أن يمد إليه ساعد المساعدة
لسرعة إنجازها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} (الطلاق: ٧) .
يا أيها الذين آمنوا إن كعبتكم التي ينهدم بانهدامها - والمستغاث بالله - ركن
من أعظم أركان دينكم تستغيث بكم فأغيثوها , وإن قبر نبيكم عليه الصلاة والسلام
يستنجد بكم لحمايته وحفظه فانجدوه ولا تقولوا: إن الله تولى حفظهما، فإن الله يحفظ
ما يريد حفظه بالناس , ولكل شيء سبب , وقد شُجَّ رأس النبي صلى الله عليه
وسلم وهو حيٌّ وكسرت رباعيته وهدمت الكعبة من بعده {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) .
يا أيها الذين آمنوا إن صدى صوت كيمون الحاضّ على هدم الكعبة ونقل قبر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى باريس لا يزال يرنٌ في مسامعكم ولا تزال آلامه
تدمي قلوبكم وتنفعل لها أرواحكم فليزعجكم هذا إلى مساعدة هذا المشروع العظيم إذا
كنتم نسيتم ما تمثل به المقطم الأغر إنذارًا لكم في مقالة له أيام الفتنة الأرمنية وهو:
ها مصر قد أودت وأودى أهلها ... إلا قليلاً والحجاز على شفا
لقد أنذركم الله بطشته فلا تتماروا بالنذر {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: ١٠-١١) .
يا أيها الذين آمنوا اسمعوا ما قال شيخ الإسلام في المجلس العالي الذي عقد
للمذاكرة في المشروع في دار السعادة، قال: (إن الدولة العلية إذا لم تتم هذا العمل
تسقط قيمتها من نظر العالم الإسلامي) ولقد قال حقًّا وكان لقوله أحسن الأثر عند
مولانا السلطان الأعظم رئيس اللجنة وسائر أعضائها.
ونحن نزيد على سماحته فنقول: إذا لم يتم هذا المشروع فإن العالم الإسلامي
كله يسقط من نظر العالم الإنساني بل ومن نظر نفسه أيضًا وييأس المسلمون من
كل عمل نافع للملة والأمة. بل يخشى أن يرتد الملايين من المسلمين إذا أصيبت
الكعبة أو القبر الشريف بسوء، وما أجدرهم باليأس إذا كان خليفتهم ورئيسهم الدنيوي
يحاول القيام بعمل يعد صغيرًا بالنسبة لأمثاله من الخطوط الحديدية ثم تعجز الدولة
والأمة الإسلامية كلها عن إتمامه! ! ! وكيف لا يرتدُّون وهم لجهلهم يعتقدون أن
تلك المواضع محفوظة بالخوارق؟ وأعوذ بالله أن يرضى مسلم يؤمن بالله واليوم
والآخر بهذه الإهانة الكبرى لأمته , وأن يقصر في عمل عاقبته اليأس والقنوط
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: ٥٦) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} (الحجر: ٥٦) ومن آمن بالله لا يقصر في حفظ بيت الله وتسهيل
السبيل لحجاجه. ومن يؤمن برسوله يتمنى تسهيل زيارته على نفسه وعلى إخوانه
المؤمنين. ومن أفضل المجاهدة بالمال بذله في هذا العمل المبرور فمن فاته الجهاد
بالنفس لا يفوته الجهاد بالمال {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: ٣٩) .
يا أيها الذين آمنوا تفكروا في ماضيكم وحاضركم واسمعوا ما تقول الأمم فيكم
اليوم، يزعمون أن المسلم يستحيل أن يقوم بمشروع نافع وأن يأتي بعمل عام مفيد ,
وأن السعادة مختصة بهم ومحصورة فيهم فكذبوهم بأعمالكم. وهذا المشروع فرصة
سانحة لتكذيبهم فاغتنموها {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: ٢٩) .