للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


هانوتو والإصلاح الإسلامي

ألم المسلمين من مقالات هانوتو , عظمة أمر فريضة الحج، رأيُ كيمون في
نسف الكعبة ونقل القبر المعظم عليه كثيرون من الأوربيين , حاجتنا إلى معرفة
رأي الأوروبيين فينا، وفاء كتاب الإسلام الذي عربه فتحي بك زغلول بهذا
الغرض , أوربا والإسلام، خطأ الأوربيين في اتهامهم إيانا بالسعي في أن يكون لنا
حاكم واحد، قولهم: إن الدين الإسلامي يحول دون تقدم المسلمين، مناقشة هانوتو
في رده على كيمون، الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، سيرة فرنسا في
الجزائر وتونس , النسبة بين الصلاة والحج، المساواة في الإسلام، حقيقة أثر
الإسلام في التقدم والتأخر، الرأي في إزالة سوء التفاهم بين أوربا والمسلمين.
نشرت مقالات هانوتو في (الإسلام) فما بلغت البلاد الإسلامية إلا وقامت لها
وقعدت , وأشد ما أمضَّها منها وجرح وجدانها هو ما نقله عن (كيمون) من
التحريض على نسف الكعبة المكرمة ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر , ومن
وصف الإسلام بالأوصاف القبيحة الشائنة , وما صرح هو به من رغبة أوربا في
الحيلولة بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج التي هي من أركان الدين الإسلامي لا
من أعماله المندوبة أو المستحبة ولا من الواجبات المخيَّر بها المكلف. ولو أن ما
جاء في تلك المقالات هو رأي كيمون وحده أو رأيه ورأي هانوتو معًا، لما كان لنا أن
نلقي إليه بالاً أو نعده بلاء ووبالاً ولكنه رأي الكثيرين من الكتاب والسياسين. ومن
البلاء الأكبر أننا نجهل هذا وهو من أسوأ أنواع الجهل وأقبحها وأشدها ضررًا
ووخامة عاقبة لأن بغض الأمم الأوربية واحتقارهم لنا ما جاء إلا من الكتاب
والسياسيين القابضين على أزِمَّة النفوس والمتصرفين في الوجدانات والعقول. وقد
ذقنا مرارة هذا البغض والاحتقار , وربما كان ما سنلاقيه من الألاقي (الدواهي)
أشد مما لاقيناه في الماضي.
علم عقلاؤنا شدة حاجتنا إلى الوقوف على اعتقاد الأوربيين فينا فقام صاحب
الهمة العلية والغيرة الملية أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر بترجمة كتاب
من الكتب التي ألفوها في الإسلام [١] ليكون عبرةً لنا وباعثًا لعلمائنا وكتابنا على
الدفاع عن حقيقتنا ببيان حقيقة الإسلام لهم ليزول سوء التفاهم , وبإصلاح شئوننا
حتى لا يكون لهم حجة علينا، فلم يكن من بعض أصحاب الأنظار القصيرة والآراء
الأفينة إلا أن نَفَرُوا ونَفَّرُوا من قراءة الكتاب المذكور زعمًا منهم أن تعظيم الدين
ومن جاء به إنما يكون بجهل ما يقوله خصماؤه فيه وما يريدونه من السوء به ,
ومن هؤلاء الاغرار من خطأ المؤيد بنشر ترجمة مقالات هانوتو الأخيرة.
دع هؤلاء الغافلين في جهلهم الذي سموه تعظيمًا وهلم بنا للبحث في هذا
الموضوع الذي هو أهم مصالح الإسلام والمسلمين - موضوع العلاقة بين أوربا
والإسلام وما يريده القوم منا وما نريده منهم وما نريده من أنفسنا تجاههم. تتهم
أوربا كتاب المسلمين بأنهم قاموا في هذه السنوات الأخيرة يطالبون إخوانهم في
جميع أقطار الأرض بالاتحاد والاجتماع تحت راية واحدة والسعي في أن يكون
حاكمهم كلهم واحدًا منهم فحزبها هذا الأمر وأهمها لأن غايته نزع المستعمرات
الإسلامية من مخالب الدول المسيحية , وقد كتبنا في الجزء الحادي عشر من هذه
السنة مقالة عنوانها (أوربا والإصلاح والإسلامي) بينا فيها أن كتاب المسلمين لا
يطالبونهم في هذه الأيام إلا بمجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال وما خطر على
بال أحد منهم أن يحضهم على السعي في أن يكون لهم حاكم واحد , وكل يعتقد أنه
لا سبيل إلى ذلك. والآن نعيد القول بمناسبة ما جرى بين موسيو هانوتو وسعادة
بشارة باشا تقلا ونشر في جريدة الأهرام منذ أيام , وأهم ما في تلك المذاكرة أمور:
(أحدها) قول هانوتو للباشا: (أنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسويين ,
ولم أستشهد بكيمون وهو يوناني الجنس إلا لأفنّد أقواله التي لم ينفرد بها , فإن
كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسويين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه وقالوا
قوله , وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام
معتقدهم يحول دون ذلك , وحجة هؤلاء واحدة وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر
الشرق لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي , وأن كل حكومة انفصلت عن
الشرق سارت على منهاج أوروبا علمًا ومدنية فنجحت مع أن العثمانية وأفغانستان
ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة , وأنا ذكرت من
هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم , ولأفند مزاعم هذا
الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون
الإصلاح والمدنية , واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس فذكرتها مثالاً أؤيد
به أقوالي وسياستي , هذه هي روح كتابتي السابقة , وإنها ستكون روح اللاحقة) ثم
ذكر أن مغزى كتابة هؤلاء لا تخرج عن إعادة الكَرَّات الصليبية. ونحن نقول: إنه
لا يفند رأي كيمون إلا من هذه الجهة - جهة التحريض على الحرب الصليبية - لما
في ذلك من الخطر على العالم كله فإن مناوأة ثلاثمائة مليون مسلم (أو مجنون كما
يقول كيمون) يتمنون الموت في سبيل الدين، ليس بالأمر الهين والسهل , ولكن
فلسفته في عقائد الدين الإسلامي كان من معناها أن المسلمين أو الساميين عامةً لا
يمكن أن يجاروا المسيحيين أو الآريين؛ لأن طبيعة عقائدهم لا سيما القضاء والقدر
تحول دون ذلك , وذكر أن تمسك المسلمين بدينهم المقتضي للتأخر يسهل على أوربا
أن تحل رابطته وتفصم عروته , واستشهد على هذا بأن فرنسا تمكنت من فصل
تونس عن مكة وذلك بمنع أهلها من أداء فريضة الحج الشريف.
(ثانيها) مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسة وهي أهم
المسائل التي تطلبها أوربا من المسلمين , والجرائد التي تدعو الشرقيين أو المسلمين
إلى مدنية أوربا تجتهد في في إقامة الحجج على أن النجاح موقوف على هذا الفصل ,
وربما كان فيهم من يعتقد ذلك حقيقة , وقد كتبنا في هذا غير مرة ومن ذلك مقالة
عنوانها (الدين والدولة والخلافة والسلطنة) بلغنا أن قناصل الدول في القاهرة
ترجموها وأرسلوها إلى أوربا , وليس من غرضنا الآن إلا مناقشة موسيو هانوتو
للوقوف على حقيقة مراده , قال في حديثه مع تقلا باشا بعد كلام في المسألة:
(وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسويين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق
للسلطة الحاكمة مع احترام عقائد الشعوب الذين تحت حكمنا وسلطتنا , وهو ماسرنا
عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية) ونحن نقول:
إن المسلمين يكتفون من الفرنسوين وغيرهم من المتسلطين عليهم من الأوروبيين
بأن لا يتعرضوا لشيء من أمور دينهم , ولكن الفرنسويين منعوا الحج من
القطرين واستولوا على الأوقاف ومنعوا حقوق الحرمين الشريفين منها , وذكر
العلامة الشيخ محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار) أنه لم يبق في مدينة
الجزائر إلا أربعة جوامع , ولقد عارض الباشا هانوتو مذكرًا له بأن أهل الجزائر
غير راضين عن فرنسا فاعترف بذلك ووعد بالكتابة فيه , وأكد القول بأن أهل
تونس راضون بإصلاح فرنسا بلادهم لاحترامها جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم
الشخصية وهي راضية منهم باحترام سلطتها السياسية وإذا كان هذا القول صحيحًا
فما هو إلا لأنهم يعتقدون أن منع الحج أمر عرضي مؤقت، الغرض منه المحافظة
على الصحة وأنهم يتوقعون في كل عام الإذن لهم بإقامة هذا الركن الإسلامي العظيم ,
فإذا علموا بعد ذلك بأن الغاية منه فصل تونس من مكة فلا يمكن أن يرضى منهم واحد
بذلك , ولا بد أن تظهر آثار السخط عليهم أجمعين إذ لا فرق عندهم بين أن يمنعوا من
دخول المساجد لأداء الصلاة وبين أن يمنعوا من دخول الحرم الشريف لأداء الحج ,
بل المنع الأخير أشد جناية على الدين لأن الصلاة يصح أن تؤدى في البيوت والطرق
وكل مكان , وأما الحج فلا يصح إلا في مكة المكرمة. فإذا كان ما يقوله موسيو
هانوتو حقًّا فما على حكومته إلا أن تثبته بإزالة المنع من الحج وبدون هذا لا يمكن أن
يصدق هذه الأقوال أحد من قارئيها على أنهم أقل القليل , إن الأمة الإسلامية أصبحت
أسوأ اعتقادًا بفرنسا من سائر الدول بسبب منع الحج لأن لأهل الجزائر وتونس شئونًا
خاصة في بلاد الحجاز تستلفت إليهم جميع الشعوب الإسلامية , وذلك في اجتماعهم
ومدافعة بعضهم عن بعض وكلامهم وعاداتهم , وقد نقل إلينا أنهم افتقدوا بعد المنع في
عرفات لا سيما في هذه السنة , وكان حديث الحجاج أن فرنسا منعتهم من أداء فرضهم
غلوًّا في التعصب على الإسلام.
يسهل على هانوتو وغيره أن يقنع بعض من يقرأ كلامه من المسلمين بالأدلة
النظرية على حسن قصد فرنسا بمنع الحج في هذه السنين , ويتعذر عليه وعلى كل
أحد أن يقنع العالم الإسلامي بذلك , ولكن يسهل على فرنسا هذا الإقناع بإزالة المانع
كما قلنا.
(ثالثها) قول موسيو هانوتو: إن أوربا لا تسعى إلا لمصلحتها السياسية
وأنها ستتفق على المسائل الشرقية اتفاقها الآن على دولة الصين، وأن مِن جَهْل كُتَّابنا
التحيز للألمانيين لنكاية الإنكليز والانتصار للفرنسويين على الألمانيين (مثلاً)
وهذا القول صحيح وهو موضع العبرة لمن يعتبر والعظة لمن يعقل , وقد بالغ
هانوتو في تبرئة أوربا من التعصب الديني علي المسلمين وخطَّأ الذين يدَّعون هذا
محتجًّا بحرب القريم وغيرها , فإذا سلَّم له المسلمون احتجاجه وقالوا: إننا لا ثقة
لنا بأوربا , ولا يمكن أن نأمن لها ونطمئن بوعودها لأنها طامعة في بلادنا وعاملة
على نزع استقلالنا بعامل المصلحة والسياسة لا بعامل الاعتقاد والدين , فهل يمكن
لهانوتو أن يزيل هذا العذر بفصاحته بعد ما أثبت أسبابه بصريح قوله؟ ؟
(رابعها) قول تقلا باشا لهانوتو: (المسلمون يعتقدون أن مصلحة أوربا
المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول
المسيحية , وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ولو
أخلص لهم الخدمة وصدق معهم) قوله هذا مبالغ فيه فإن المسلمين كانوا ولا
يزالون يقلدون المسيحيين المناصب العالية , ويثقون بمن يصدق ويسير بالأمانة ,
وانظر كيف كان رستم باشا موضع ثقة الأمة الإسلامية وإمامها الأعظم السلطان عبد
الحميد وانظر إلى كثرة الموظفين في الدولة العلية من الأرمن على خيانتهم
وثوراتهم المتعددة , وانظر إلى الحكومة المصرية كيف كانت تقدم المسيحيين ولو
غرباء على المسلمين المصريين أصحاب البلاد , ولكن تكرار الخيانة يعلم البليد
الحذر.
(خامسها) قول موسيو هانوتو: إنه كان يجب على المسلمين الذين
عركتهم حوادث السنين أو الذين درسوا في أوربا أن يهتموا بنشر العلوم العصرية
في بلادهم وأن يسعوا في إزالة سوء التفاهم بين الشرق والغرب بأن يتلوا تلو أوربا
في الاجتهاد والإقدام كما فعلت اليابان , ومن الأسف أن هذا الرجل على سعة
معارفه بأحوال عصره لما يدرِ بأن عقلاء المسلمين وكُتابهم قد جعلوا كل عنايتهم في
هذا الأمر النافع , وقد صدق في قوله: إن التعليم لا يفيد إذا لم يصحبه التهذيب ,
وفى قوله: إن المتعلمين في أوربا منا ربما كانوا أكثر من الذين تعلموا فيها من
اليابان , ولكن ظهرت في اليابان نتيجة لم يظهر مثلها عندنا.
(سادسها) ما ختم به قوله من أن النجاح مشروط بخدمة الوطن خدمة
منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية (قال) : لأن الوطن الواحد قد يجمع أكثر
من عنصر ومعتقد ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرًا واحدًا إلى أن قال: لهذا كانت الرابطة الوطنية أعم وأشد من الرابطة الدينية وهي التي كانت قاعدة
أوربا وبها تقدمت وتمدنت ونجحت , ونحن نقول: إن هذا القول لا يصدق على
الدين الإسلامي فإن الرابطة الإسلامية لها طرفان: طرف روحي يضم أبناء الدين
ويجعلهم إخوة بعضهم أولياء بعض في الدين , وطرف مادي اجتماعي يضم مع
المسلمين غيرهم من العناصر ما عدا المحاربين الذين لا عهد لهم، ويجعل الجميع
سواءً في الحقوق لا يفضل المسلم مهما كان عظيمًا على غير المسلم مهما كان حقيرًا ,
وبهذا يمكن أن تعمر البلاد وتسعد العباد , وقد أوضحنا هذا المبحث في مقالة
نشرت في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ونوهنا به في
مقالات أخرى كثيرة.
ولا يمكن لكتاب المسلمين أن يجعل كل واحد منهم إرشاده لأهل بلاده خاصة
لأن تأخرهم لم ينسب إلى بلادهم وإنما هو منسوب إلى دينهم وهو يوافقون كُتَّاب
أوربا على قولهم: إن للدين أقوى الأثر في هذا التأخر , ولكنهم يخالفونهم في وجهه
فأولئك يزعمون أن طبيعة الدين تقتضي هذا ونحن نوقن أن طبيعته تقتضي التقدم
وأن التأخر ما جاء إلا من الانحراف عن سننه ولبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا (كما
قال الإمام علي كرم الله وجهه) وقد بينا هذا من قبل في مقالات كثيرة ولكن صوتنا
لا يصل إلى هانوتو وأمثاله من السياسيين والكتاب الأوربيين , ولا ينقل لهم
الوسطاء بيننا وبينهم إلا أقوالاً مقتضبة مختزلة يستثيرون بها إحنتهم علينا , ولو
نقلوا إليهم كتابة من يعتد بكلامهم ويوثق بمعرفتهم للإسلام لقبله المنصفون وزال
سوء التفاهم الذي نتمناه كما تمناه هانوتو وغيره من العقلاء أو أشد تمنيًا , وربما
كان فيه الخير للفريقين , فعسى أن نصل إلى هذه الأمنية بالجرائد الشرقية التي
تنشر باللغات الأوربية كالمؤيد الفرنسوي في مصر ومحمدان ومسلم كرونكل في
الهند , وغيرها من الجرائد المسيحية المنصفة والله يجزي المحسنين.