للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


من كتاب
أميل القرن التاسع عشر

(باب الولد)
(١٠) من أراسم إلى هيلانة في ٣ يونية - ١٨٥
إن معظم من كتبوا في علم التربية يغالون بأصول علم الأخلاق ويرفعون من
شأنها , وأنا مثلهم أعتقد أن المواعظ الحسنة وقواعد التهذيب المفيدة قد تبعث العزائم
في بعض الأحوال على القيام بصالح الأعمال ولكني لا أعتقد أن ما يلقفه الناشئون
منها من أفواه معلميهم في دروسهم يغير طباعهم تغييرًا حقيقيًّا , وهيهات أن أعول
عليها في ذلك فإننا نرى كل يوم في المجتمع الإنساني أناسًا من الظرفاء الأكياس
جُفاةً غُلف القلوب على أنهم لم يحرموا من النصائح العامة الداعية إلى التحابِّ
والتراحم المرغبة في لذة الاتصاف بهما , فما من فاسق أو شرير أو بخيل إلا وقد
سمع ألف مرة من ألسنة الوعاظ قولهم: (كن حكيمًا مهذبًا تكن عزيزًا مغتبطًا) [١]
(لا تفعل بغيرك ما لا ترضى أن يفعله بك) [٢] (لا تجعل لحطام الدنيا حظًّا من
قلبك) [٣] إلى غير ذلك من النصائح والحكم.
الإنجيل كله مواعظ رائقة وأمثال شائقة فليت شعري من ذا الذي يراعيها.
هل تجدين كثيرًا من الأغنياء أنفقوا جميع أموالهم على الفقراء بعد سماعهم آية (إن
دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني في ملكوت السموات؟) [٤] هل
تلاقين ولو في القسيسين أنفسهم عددًا كبيرًا ممن يفضلون عبادة الله (سبحانه) على
عبادة الدنيا والدرهم؟ هل يرضى أوائل الناس أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك أن
يعاملوا معاملة الأواخر؟ هل يسهل على الحاكمين أن ينقلبوا محكومين؟ كلا إننا
نرى علماء الدين يغالطون في فهم نصوص الكتاب مخادعين وجدانهم غاشين
ضمائرهم وما أكثر ما يؤوّلونه منها تخلصًا من قضائها عليهم وفرارًا من عواقب
الأخذ بصريحها.
جاء المسيح يدعو إلى السلام في كل قول من أقواله، فهل رأيتِ الممالك
أصبحت أقل قتالاً؟ ندب إلى التآخي بقوله الجليل: (كلكم إخوان) [٥] فهل هدم
هذا القول دعائم الاستعباد ومحا من النفوس ميلها إلى التسلط؟ توعد من يصلت
سفيه بغيًا وعدوانًا بالهلاك، فقال ما معناه: (من سل سيف البغي به قتل) [٦] فهل
ردع هذا الوعيد من كان بيدهم الحول والقوة عن انتهاك حرمة القانون بالبغي
والفساد في الأرض. قال (من أخذ قميصك فأعطه رداءك) [٧] فلو أن أحدًا منا
معشر الفرنساويين المتشددين في التمسك بالدين اتبع هذا الأمر وجرى على نصه
حرفيًّا لسجن في شارنتون [٨] خصوصًا إذا كان له من أقاربه وارثون.
لم يختص المسيحيون بهذه المواعظ الحسنة فإن لليهود أيضًا والصينيين
والفرس كتبًا فيها حكمة بالغة وكلم نابغة , ولكنهم لم يصيروا بها أحسن منا حالاً
فإنه لو كان يكفي في تحسين أحوال الناس وتهذيب نفوسهم وجود كتاب مفيد في علم
الأخلاق لكانت الدنيا قد بلغت غاية الكمال من زمن طويل لأنها والحمد لله لم تخل
من علماء الأخلاق يومًا، على أننا لا نسمع في جميع أرجائها إلا أصوات آلام
المنكوبين والمكروبين وتحريق الأرَّم من المقهورين المتغيظين.
أرى أنه لا ارتباط بين مذهب المرء وبين عمله غالبًا إلا في الخيال والوهم
فلو أن الخير كله والشر كله كان كل منهما بمعزل عن الآخر في مجرى الحياة
وسياق أعمالها لسهل على الناس الحكم فيما اختلفوا فيه من آرائهم ومذاهبهم ,
ولانقطع من بينهم سبب الخلاف بأسرع ما يكون , ولكن هيهات أن يكون الأمر
كذلك وقد علمت أنه لا يعمل منهم بعلمه إلا الشذّاذ! انظري إلى أصول الأخلاق
الإنجيلية - مثلاً - تجدي أن من لا يؤمنون بألوهية المسيح هم في الغالب أكثر اتباعًا
ورعاية ممن اتخذوا الإيمان بتلك الألوهية مهنة لهم.
أنا لا أعني بجميع ما قلته هنا أن علم الأخلاق لا فائدة له في التربية وإنما
الذي أريده بهذا الكلام هو أن أحسن ما يوجد بهذا العلم من الأصول في الدنيا بأسرها
لا ينشئ رجالاً كملة مهذبين , وقد فهم ذلك حق الفهم واضعو الشرائع فعززوا ما
دوّن من تلك الأصول في الكتاب بأوضاع تامة للثواب والعقاب.
ثم إن الطفل لا يستفيد مما يلقى عليه من دروس الأخلاق إلا إذا كان من
الاستعداد والكفاءة بحيث يقدر أسباب أعماله وعواقبها، فأنَّى له إذن أن يفهم هذا
الأصل الوجداني وقد حجبه عنه إدراك مشاعره الظاهرة واشتداد أهوائه وشرّة
غرائزه؟ وأنَّى له أيضًا بأن يكون جميع ما يراه من الأسى والأمثال من شأنه أن
يأخذ بزمام عزيمته إلى الخير ويصرفه عن الشر؟ وليت شعري هل تجري أمة
دائمًا على مقتضى ما ترشده إليه من صالح الأخلاق وجميل الصفات؟ إن الوالد
ليلقي على ولده خطبة طويلة في وجوب مواساة الفقراء والإحسان إلى المساكين ثم
لا يلبث هو نفسه أن يلومه إذا أعطى لفقير درهمًا من الفضة، فهو بذلك يبذر بإحدى
يديه في ذاكرته أصول الإنجيل وينقش بيده الأخرى على قلبه صور النفاق والرياء
اهـ[*] .
(١٣) من أراسم إلى هيلانة في ٤ يونيه سنة -١٨٥:
يُعوِّل علماء الأخلاق كثيرًا في تربية الأطفال على قوة القدوة وتأثير الأسوة،
وأنا في هذا موافق لهم ولكن أيّ والد يصح له أن يتبجح بأنه على الدوام قدوة
صالحة لولده.
نحن في الجملة نسعى في غش الأطفال وخداعهم بما نتزين به لهم من لباس
الرياء الذي يجعلنا في أعينهم أحسن مما نحن عليه في الحقيقة والواقع وبما يصدر
عنا كثيرًا أمامهم من الأقوال والآداب المغايرة كل المغايرة لمعتقداتنا وآرائنا الذاتية
وحقيقة الأمر أننا نقصد أن نربي طباعهم على ما نشأنا عليه؛ موافقة لحسن رأينا
في أنفسنا , ورغبة في تحقيق غيرنا بهذا الرأي , وأن نكسوهم من الفضائل ما
نتظاهر لهم بأننا متحلُّون به , ولكن هيهات أن ينخدعوا بهذه الحيل , ومن ظن بهم
ذلك فقد أخطأ في فهم معنى سذاجتهم وصفاء قلوبهم خطأً بينًا. الأطفال يعرفون
كمال المعرفة ما يعتمدون عليه في كشف مقاصد آبائهم والوقوف على شئونهم وهم
يدركون بالحدس والتخمين ما يجتهد هؤلاء في كتمانه عنهم , وإني لفي شك من أن
هذا الكتمان وإن حمدت أسبابه يزيدهم في نفوسهم إجلالاً وتعظيمًا.
عاقب والد ابنًا صغيرًا له لم يتجاوز الخامسة من عمره على أكذوبة قالها ولم
يكد ينتهي من عقابه حتى دخل عليه خادمه مخبرًا له بأن زائرًا ثقيلاً ينتظره في
الخارج , فقال له ذلك الرجل الوقور: أخبره بأني لست هنا. فيا له من درس
يستفيد منه الطفل الصدق والإخلاص! .
أنا على يقين من أن (أميل) لن يجد فيك إلا أحسن أسوة وأكمل قدوة , وهذا
هو الذي يملأ قلبي اطمئنانًا عليه. ولكن أقول لك الحق غير مُداجٍ فيه ولا مُدارٍ
وهو أن غرضي من تربيته أن يكون ذا طبع مستقل لا مفرغ في قالب طبع آخر
مهما كان لهذا الطبع من الكمال. وأذكر لك هنا واقعة حضرتني الآن تدلك على أني
محق في قصدي وهي أني رأيت ذات يوم طفلاً في السادسة من عمره راجعًا مع
والدته من تشييع جنازة وهو من الأطفال الناجحين المتقدمين جدًّا على حسب اعتقاد
الناس , وكان يبكي أو يتباكى فارتبت في أمره وظننت أنه مخطئ في معرفة من
فجع به لأن المتوفى لم يكن إلا ابن عم بعيد له (على أن الأطفال لا يفهمون حقيقة
الموت كما تعلمين) فسألته عن سبب بكائه وكدره العظيم فكان جوابه لي أن قال:
(لا سبب سوى أني رأيت الآن والدتي تمسح عينيها بمنديلها فبكيت) فأضحكني منه
هذا التأثر التقليدي وإن كان صادرًا بلا شك عن طبع ساذج وقلب سليم , فلا أريد
أن يكون (أميل) مثل هذا الغلام في تأثره بل أودُّ أنه متى بلغ السن الذي يرقُّ فيه
لمن تصيبه مصيبة ويعطف عليه يكون ذلك منه ناشئًا عن غم كارث ألم بنفسه
وحزن ممض يضطرم في قلبه.
يجب أن يلحق ما يرى من أعمال الحيوانات وسيرها في حياتها بما للقدوة من
التأثير في التربية. وكيف لا ونحن نرى كتاب الأمثال عندنا على بعد مجتمعاتنا من
معاهد الفطرة تزدان تآليفهم وتزدهي دروسهم بما يودعونها من سير الحيوانات
وأخلاقها , وأن الطفل من أولادنا لا يكاد يقدر على النطق المفهوم والحفظ حتى
يحمل على حفظ أسطورة من أساطير لافونتين [٩] كأسطورة الصرصار والنملة مثلاً
أنا لا أنكر أن في حياة الحيوانات عبرًا كثيرة وعلومًا شتى يجب علينا تعلمها ,
ولكني أقول: ألا ينبغي لهذا العالم الصغير الذي يحفظ سير هذه المخلوقات الممثِّلة
رواية الكون الكبرى في مشهده الأعظم أن يعرفها ليهتم بشأنها اهتمامًا حقيقيًّا؟ . فكم
نرى من الأطفال الذين نشأوا في حواضرنا الكبرى وقرأوا أساطير ذلك الكاتب
الشهير من لم ير في حياته تلك المخلوقات التي يحكى لهم قصصها ويمثل لهم
أحوالها إلا قليلاً، فهم على جهل تام بأخلاقها وعوائدها. وفي رأيي أن سليمان
(عليه السلام) أعقل من واضعي التعليم الحديث إذ قال للكسلان: عليك بالتعلم في
مدرسة النملة [١٠] فإنه دله بهذا الإرشاد على ينابيع علم الأخلاق الفياضة لا على
حياضه التي لبعدها عن تلك الينابيع لا توجد فيها إلا صُبابة لا تروي ظمأ ولا تبرد
غُلة اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))