للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي


الشعر العربي
لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى أفندي الرافعي

ضربت العرب في الشعر كل بسهمه فمخطئ ومصيب حتى ملأوا بقاع
الأذهان حكمة وغرسوا في الأفكار فسيلة الخيال فإذا هي شجرة طيبة أصلها ثابت
في الجنان وفرعها في اللسان تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ظلُّوا سائرين بعد
ذلك في أنجاد وأغوار بين إرقال وإيضاع حتى إذا أخذت الأفكار زخرفها من تلك
الوهاد وأصبح أهلها قادرين عليها ارتفعوا بشعرهم. فمن باسط يده لشهب السماء ,
ومن قابض بأنامله على كواكب الجوزاء , ومن سابح في البحار إلى سائح في القفار
وفي كل ذلك منهم قاصر ومجيد.
لقد صح للعرب وذلك مبلغهم من العلم أن يقولوا: إن الشعر يرفع ويضع
ويضر وينفع. وليس بعيدًا أن يعلو بقوم وينزل بآخرين ما دامت الأسماع على
الأفواه تلتقط الكلمة يطرحها الشاعر من بين شفتيه فإذا هي في أنحاء البلاد جارية
على ألسن العرب مجرى الماء العذب.
روى لنا التاريخ في أصل ضعة بني أنف الناقة وخمول ذِكْرهم ونَبْزهم بهذا
اللقب أن أبا أنف الناقة كان له جملة من الولد مختلفات أمهاتهم وكان أنف الناقة
واحدَ أمِّه فنحر يومًا ناقة وقال لولده: اذهبوا فاقتسموها فتباطأ أنف الناقة حتى لم
يبق منها إلا رأسها فذهب ليأخذه وأدخل ذراعه في أنفه واحتمله فقيل له: أنف
الناقة , وعير بذلك فلما قال في مدحهم الحُطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسَوي بأنف الناقة الذنبا
علا قدرهم وارتفع ذكرهم وصار اللقب مفخرهم بعد أن كانوا ينتسبون إلى
مختلفين من الأجداد مخافة أن يعيروا بذلك اللقب الشنيع.
وكانت نمير من أعز القبائل حتى اشتهرت بجمرة العرب لقصر أنسابهم عليهم
إذ ليس فيهم دخيل فهم لا يُخْرِجُون من نسائهم لغيرهم , ولا يُدْخِلُون من رجال
غيرهم على نسائهم وحتى كانوا إذا قيل لأحدهم: ممن الرجل؟ قال: نميري
مفخمة يملأ بها فاه , فلما قال جرير يهجو الراعي:
فغُض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
ذل هذا الاسم واتضع وانتسبوا بعد ذلك لجد أعلى منه , فكان واحدهم يقول
إذا سئل الانتساب: (عامري) تاركًا منتسبه الأول من ورائه ظهريًّا.
تلك حالة الشعر والشاعر أيام كان الأول تارة كالنجم الزاهر , وآونة كالسيف
الباتر , ومرة كالعقاب الكاسر وطورًا كالليث الخادر، وأيام كان الثاني في رصانة
النظم عالي الذكر جليل القدر يثور بمقوله كالأسد بمخلبه فتخشاه القبائل وتخافه
العشائر.
بهذه الثياب الطبيعية التي كان يلبسها الشاعر حينًا فحينًا وبذلك الباتر العضب
الذي ابتز به تلك الثياب لم يغادر الشعراء من متردم. فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا المقصد وأضلوا المورد فظلعوا كالضبع على بعد المزار حتى بلغوا من
البحر نجعة فلزموها يرددونها في أفواههم ترديد الصبي لعابه حتى انقلبت فقاقع
يغرهم فيها قول الناس: إنها الماء الزلال أو السحر الحلال.
ذلك مورد الشعر في عصوره الأولى بل والوسطى أيام كان يفيض عن ألسنة
الفرزدق وجرير وأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء والشريف ومهيار
ومن كان من هذه الطبقة. أما وقد حملت الأرجل بعدهم أناسًا لا ألسنة لهم إلا
صحف أسلافهم يقطعون من مشتجرها أشجارًا ويجنون من حدائقها ثمارًا زاعمين
أن الغراس بأيديهم والمراس بأنفسهم والشجرة لم تثمر إلا بعد أن سقوها من عرقهم
كالسيل المنهمر فاهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج- فليس الشعر إلا
شعيرًا وليس الشاعر إلا ناعرًا.
أولئك الزعانف الذين جعلوا الشعر تجارة وليتها لم تكن بائرة واتخذوا النظم
صفقة ولكنها خاسرة، قد ركبوا من المقت سفنًا , وقذفوا بأنفسهم في بطونها كما يقذف
بالطير في القفص مجذوذًا جناحه فلا طير ولا ارتياش حتى انكدرت نجوم الشعر
وكسفت شموس أهله.
حسبوا أن الزمان من صباه إلى هرمه لم يكن في عمرانه غير الطلل البالي
والمنزل الخالي، فهم يسلمون عليه ويبكون لديه حتى تسيل المحاجر السود على
الخدود الصفر فتجري الشئون الحمر كالأنهار على ظهر القفار كل ذلك والشاعر
يقول: إنه غرق بدمعه وعميت عليه غياهب القضاء حتى ضاق بعينيه الفضاء وأنه
استبسل للمقدور واستسلم للمحذور , وفي كل هذه المصائب التي يذكرها تجد قلمه
في يديه وقرطاسه أمام عينيه وهو يفكر ويسطر ولا طلل ولا بكاء ولا محذور ولا
قضاء ولا قفار ولا أنهار ولا جبال ولا تلال ولا ظباء نافرة ولا أسود كاسرة ولكنه
الخيال يدع الأرض سائرة والجبال مائرة والأمور تتقلب في الأفكار كتقلب الليل
والنهار على حين لا طائل تحت ذلك ولا جدوى من ورائه. وحسبوا أن ليس في
الأرض غير العقيق والجزع والمفازة والدهماء والأجرع والجرعاء والهوجاء
والهيجاء والبان والسلم والكثبان والعلم، وهم يرون بأعينهم القصور الشامخة
والمصانع الباذخة والعمران في نضارته والإنسان في غضارته والبحار وما فيها
والبخار وما يعمله والكهرباء وما تصنعه. وكل هذه الآيات البينات لا تثنيهم عن
تلك الرسوم الدارسات.
قال ابن رشيق: خولفت العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق منه
وأمس بالوقت وأليق بأهله؛ فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما
قال أبو محجن:
ترجع الصوت أحيانًا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد
وطرز قوله ذلك ابن حجة بقوله: والعرب عذرها واضح في ذلك فإنه لم
يسعها أن تذكر غير ما وجدته في المهامه المقفرة من الذباب والأساريع وشجر
الأسحل وما أشبه ذلك ومن أين للعرب أن تقول كقول ابن المعتز في الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وهي عن الزورق والعنبر وعن كثير من ذلك بمعزل.
وأين وصف عنترة لروضته بالذباب والزناد الأجذم في قوله من المعلقة:
وخلا الذباب بها فليس بنازح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذارعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
من وصف العلامة يحيى بن هذيل المغربي لروضته الأريضة حيث أتى
ببديع الغريب وقال:
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
أما تشبيه عنترة فإنه معدود من التشابيه العُقم، غير أن عقادة التركيب في تقديم
الألفاظ وتأخيرها أسفرت عن أقطع يحك ذراعه بذراعه.
وأين قول امرئ القيس في تشبيه الأنامل
وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك أسحل
من قول الراضي بالله:
قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتقلن خضابا
فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا
ولو شئنا لأتينا على كثير للعرب مما يجب أن يرغب عنه ولكنه قتل للوقت
فيما لا طائل تحته وفي هذا بلاغ.
يقول الخليل: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا، جائز لهم
فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تسهيل اللفظ وتعقيده. ليت
شعري أين كان الخليل وأين كان ذكاء الخليل؟ ولكن عذره أن عصر العرب
القدماء كانت رنته تجول في أفكاره فسكر بسلافتهم وأخذ بما أخذوا به من تسهيل
وتعقيد وإطلاق وتقييد حتى وضع العروض على طول كلامهم واختط البحور من
مواردهم ومصادرهم , فعذره عذر من وصف الحسناء بالذباب، والأنامل بالأساريع
ومساويك الأسحل. ولكني أقول: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف
شاءوا جائز لهم في النظم ما لا يجوز لغيرهم في النثر ما دام كلامهم لم يتجافَ عن
مضاجع الرقة جنبه حتى يكون سهلاً ممتنعًا كالماء السلسل يتجرعه الشارب فيسيغه.
وفيما أرى أن سالك تلك السبيل الأولى والناسج على ذلك المنوال القديم الذي
حطمته الأزمان لا حظ له في اسم الشاعر ما دام قلمه مغزلاً وغزله كالعهن المنفوش.
دخل أبو العتاهية على عمرو بن العلاء فأنشده بعد قليل من أبيات الغزل:
إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... تخذوا له حر الخدود نعالا
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبًا ورمالا
فإذا وردن بنا وردن خفائفًا ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا
فأعطاه سبعين ألفًا وخلع عليه حتى لا يقدر أن يقوم فغار الشعراء لذلك
فجمعهم ثم قال: يا معشر الشعراء عجبًا لكم ما أشد حسدكم بعضكم بعضًا إن أحدكم
يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتًا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة
مدحه ورونق شعره وقد أتانا أبو العتاهية فشبب بأبيات يسيرة ثم قال ... وأنشد
الأبيات المذكورة فما لكم منه تغارون؟
وجماع القول في الشعراء أن لا يخرج الشاعر عما يعهده القوم حتى يصادق
الخُبرُ الخَبر. فإنه من العبث أن يسير الإنسان قابضًا بيده على زمام بعيره ناظرًا
إلى مناسمه ونسوعه وما يسير فيه من السباسب والفدافد والضحاضح وما يتبع ذلك
من الجنان وانصداع الفجر والتهجر والآل إلخ آخذًا في ذلك بأزِمّة الخيال يصف
كيف شاء سائرًا في أي طريق فبينما هو على بعيره في نجد إذا هو أمامه في تهامة
إذا هو خلفه في العقيق إذا هو في الحصيب. أمكنة لا يعرفها ولم يكن رآها حتى
يكاد شعره يكون عند قومه من اللغات الأجنبية.
ذكر صاحب الأغاني: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر
الناس؟ قال: من إذا شئت لعب , ومن إذا شئت جد , فإذا لعب أطمعك لعبه فيه ,
وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له آيسك من نفسه , قال: مثل من؟ قال:
مثل جرير حيث يقول إذا لعب:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حرم المكارم تغلبًا ... جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلَي قطينا
مثل هذا يكون أشعر الناس في عصرنا لو تبع جده ولعبه في وصفيهما باقي
شعره في مذاهب الشعر العربي وعلى هذا المنوال فلينسج الشاعرون.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))