للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، الذي جعل إرادة بعض عباده،
من أسباب إنفاذ مراده، فهم بقوة الإرادة يمتازون، وبحسن توجيهها للمرادات
يتفاضلون، فلولا الإرادة الإنسانية العجيبة لَمَا أشرقت شموس العلوم والعرفان،
ولولاها لما ظهرت ثمراتها العملية في الأكوان، والصلاة والسلام على أفضل
مريد ومراد، وأكمل مظهر للمشيئة الإلهية في العباد، سيد المصلحين، وخاتم النبيين
والمرسلين، المرسَل - وهو الأمي - ليعلم الأميين والمتعلمين، والمبعوث وهو
العربي إلى جميع العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه
المتقين، ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة
١٣١٥ وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه، وهو مسائل كثيرة يجمعها
الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية هي ومَن يعيش معها، وتتصل
مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر
في كل قطر وكل عصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من
الخرافات إليه، وهو عمل قد ملأ في عالم الصحافة الشرقية فراغًا، وأشرع لطلاب
الارتقاء من الأمة منهاجا، كان (المنار) فيه - على رأيهم - سراجًا وهاجًا، ظهر
على شدة حاجة الأمة إليه، واستعداد هذا القطر لظهور مثله فيه، ولكنه على هذا
وذاك بدأ كالإسلام غريبًا، وممقوتًا من السواد الأعظم لا محبوبًا، يعشي نوره
خفافيش البدع والخرافات، الذين ألفوا تلك الظلمات، حتى قال لنا خاتمة شيوخنا
الأستاذ الإمام: (إن الحق يظهر في المنار عُريانًا في الغالب ليس عليه شيء من
الحُلي والحُلل التي تجذب إليه أنظار مَن لم يألفوا الحق لذاته) ، وكتب إلينا أول
شيوخنا الشيخ حسين الجسر في ٢٨ ذي القعدة سنة ١٣١٥ ما نصه جوابًا عن كتاب:
(وصلني كتابكم الكريم بعد مضي أشهر من وصولكم لمصر معتذرًا عن
تأخره، فقبلت العذر ودعوت لكم بالتوفيق، وأعقب وصوله ظهور المنار ساطعًا
بأنوار غريبة مرغوبة، إلا أنها مؤلفة من أشعة قوية كادت تذهب بالأبصار) ...
إلى آخر ما كتبه، وفيه انتقاد لبعض المسائل أجبناه عنها، مبينين له ما عندنا من
الحجج عليها، وأنباء بمقاومة الحكومة العثمانية للمنار، وكان ذلك كما قال.
إنني لم أُنْشِئْ المنار ابتغاء ثروة أَتَأَثَّلها، ولا رتبة من أمير أو سلطان أتجمل
بها، ولا جاه عند العامة أو الخاصة أباهي به الأقران، وأباري به أعلياء الشان،
بل لأنه فرض من الفروض يرجى النفع من إقامته، وتأثم الأمة كلها بتركه، فلم
أكن أبالي بشيء إلا قول الحق والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فكنت إن أصبت هذا بحسب علمي واجتهادي فسيان رضي الناس أم
سخطوا، مدحوا أم ذموا، قبلوا المنار أم رفضوا.
طبعت من الصحف الأولى ألفًا وخمس مائة نسخة من كل عدد، وأرسلت
أكثرها إلى من عرفت أسماءهم في البلاد المصرية والسورية، وكذا في غيرها من
البلاد (وهو الأقل) ، فأعيد إليّ أكثر ما أرسلته إلى المصريين، وما نشبت الحكومة
الحميدة أن منعت ما يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، ثم جعلت عدد المطبوع
ألف نسخة، ولكن مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون على ثلث
الألف إلا قليلاً.
ما كان انتقاص عملي منتقصًا شيئًا من أملي، ولا زهد الأمة في المنار، باعثًا
على جعله طعامًا للنار، ولا لفائف لبضائع التجار، كما هي سنة أصحاب الصحف
في هذه الديار [١] ، بل كنت أحرص عليه، حاسبًا أن الناس سيعودون إليه.
وكان يمدني في أملي هذا ما أسمعه من بعض أهل الرأي والعلم بشؤون
الاجتماع، من القول بأن هذا المنار حاجة من الحاجات الطبيعية للمسلمين في هذا
العصر، لا يستغني عنه بيت من البيوت، فإن لم يفقهوه هذا اليوم فسيفقهونه في
يوم ما، وقد اتفق رجلان من غير المسلمين في كلمة حددا بها الأجل لذلك اليوم
المجهول، أحدهما إنكليزي كان يقرأ له المنار محمود سامي باشا البارودي والآخر
سوري من قرائه، قالا كلمتهما التي تواردت عليها خواطرهما، ولا تعارف بينهما،
قالا: (إن المسلمين سيبحثون عن هذا المنار ويعنون بإعادة طبعه بعد خمسين سنة) .
وإن أدري أكانا يظنان حين قالا كلمتهما أن المسلمين لا يستيقظون لطلب هذا
الإصلاح إلا بعد خمسين سنة، أم كانا يعنيان أن المنار لا بد أن يكون قد بطل في
هذه المدة بموت صاحبه أو عجزه، فيبحث الناس عنه؛ لأنهم في الغالب لا يعرفون
قيمة الشيء إلا بفقده، ولا يعترفون بقدر العامل إلا من بعده.
لعل المسلمين خير مما ظنا فيهم، ولعل الأجل الذي ضرباه أقرب مما حدده
رأيهما، فها نحن أولاء قد أعدنا طبع مجموعة السنة الأولى، ويوشك أن نعيد طبع
الثانية والثالثة أيضًا فقد قلّت نسخهما وغلا ثمنهما.
كانت السنة الخامسة للمنار (سنة ١٣٢٠هـ) مبدأ رواجه وسعة
انتشاره، فمنذ ذلك العهد صار بعض طلاب الاشتراك يطلبون مجموعات السنين
الماضية، كما يطلبها بعض المشتركين السابقين رغبة في حفظ المنار من أوله،
وضنًّا به أن يضيع شيء منه، حتى إذا قلّت مجموعات السنة الأولى رفعت الإدارة
ثمنها حتى صارت تباع المجموعة الكاملة من تلك السنة بمائتي قرش، أي بأربعة
أضعاف ثمنها الأصلي، وبِيعت المجموعة الناقصة بضعة أعداد فأكثر إلى ١٢
و١٣ عددًا بمائة قرش، ولما لم يبقَ عندنا مجموعة معدة للبيع إلا وهي ناقصة أكثر
من ١٥ عددًا، وكثر الطلب واقترح علينا إعادة طبع السنة كلها، شرعنا في
طبعها في النصف الأول من سنة ١٣٢٥، وهي السنة العاشرة، وقد تم الطبع في
النصف الأول من هذه السنة وهي السنة الثانية عشرة.
كان المنار في السنة الأولى من عمره جريدة أسبوعية ذات ثمان صفحات
كبيرة، وكنا ننشر فيه برقيات الأسبوع وبعض الأخبار التي ليست كلها ذات فائدة
تحفظ وتدخر وإن لم تخلُ من فائدة في وقت نشرها لبعض القراء. وقد أعدنا طبعه
بشكل المجلة التي هي عليه منذ السنة الثانية، ولم نحذف منه إلا البرقيات وبعض
الأخبار التي لا فائدة في تدوينها وحفظها، وأما الأخبار التي فيها عبرة دائمة أو
فائدة تاريخية أو غير تاريخية فقد أبقيناها، وحذفنا منه أيضًا نبذ رسالة (قليل
من الحقائق عن تركيا) المترجمة عن الإنكليزية لقلة الثقة بأخبارها. وسندقق
النظر فيها، فإن وجدناها حَريَّة بالحفظ والتخليد أثبتنا ما حذفناه من السنة الأولى في
الطبعة الثانية للسنة الثانية متصلاً ببقيته فيها، وإلا حذفنا باقيها من طبعة السنة الثانية
أيضًا، ومع هذا جاء المجلد الأول في حجم المجلدات الأخيرة يناهز ألف
صفحة.
طبعنا أعداد السنة على ترتيب الأصل، فمن أراد أن يقرأ المقالات المتسلسلة
في موضوع واحد (كالمقالات التي عنوانها: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: ٦٧) متصلة، فالفهرس يجمع له متفرقها بسهولة.
وقد أشرنا إلى أوائل الأعداد في الهامش عند المقالات الافتتاحية وفي أعلى الصفحات
كما هو ظاهر.
المنار في سنته الأولى والمنار في سِنِيه الأخيرة شَرَعٌ، ولو جاز لي أن
أضرب له مثلاً شرودًا يُشعر بالمدح، لقلت: (والشمس رأد الضحى كالشمس في
الطفل) ، نعم، لا فصل بين أوله وآخره في موضوعه وغايته ومسائله، ولكنا كنا
نكثر في السنة الأولى من الخطابيات، لتنبيه الأذهان وإعدادها لما هو آت، ونكتفي
في أكثر المسائل بالإجمال، لتتهيأ النفوس لطلب التفصيل، وقلما جرينا فيها على
شيء ثم تَبيَّنَ لنا خَطَؤُنا فيه إلا ما أشرنا إليه في هوامش هذه الطبعة وأكثره في
المسائل السياسية، المتعلقة بحال الدولة العلية، ومن البديهي أننا ازددنا علمًا وخُبْرًا
في جميع المسائل بطول البحث والتمحيص والوقوف على آراء الناس وأحوالهم.
قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة
من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة - قوارع
تصخُّ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعُّ
العقول إلى إطالة الفكر في الخطْبين: الغائب والعتيد، والخطرين: القريب والبعيد،
وهما: عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب
الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية
أولئك المخاطَبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم
وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست
بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد،
يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
راجع تلك السور العزيزة لا سيما قصار المفصَّل منها ك ? {الْحَاقَّةُ *
مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: ١-٢) ، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: ١-٢) ،
و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة: ١) ، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: ١) ،
و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار:١) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: ١)
و {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: ١) ، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: ١) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: ١) ، و {وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقاً} (النازعات: ١) .
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من
سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي - صلى الله عليه وسلم - من مكان إلى مكان
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: ٥٠-٥١) ، {أَلاَ إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ} (هود: ٥) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في
الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: ٢٣) ... إلى ٣٧ منها، وقوله بعد إباحة
الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) .
تدبر هذا ثم أَجِلْ طرفك في فاتحة المنار الأولى، وفي أكثر المقالات
الافتتاحية [٢] تجدها زواجر منبّهة، وبينات في الإصلاح مجملة، ترشد المسلمين
إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم الخطر المهدد لهم في استقبالهم، وتذكرهم بما
فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوا من مجد آبائهم الأولين،
تزعجهم إلى استرداد ما فقدوا، وإيجاد ما لم يجدوا، بطريق الإجمال، في أكثر
الأقوال، وما جاء في سائر السنين فهو من قبيل التفصيل، أو إقامة البرهان
والدليل، على تلك الدعوة الإجمالية، والمقالات الافتتاحية، وترى بهذا كله اقتباس
المنار لهدي الكتاب العزيز واتباعه لسنته في الترتيب كاتباعه له في المسائل
والأحكام، والحمد لله على ذلك.
كان لتلك المقالات الخطابية الاجتماعية والفلسفية تأثير عظيم في نفوس
القارئين: فمن مبالغ في الاستحسان، كأن يطالب بعد الإقلال منها أن نعود إليها [٣] ،
ومن مبالغ في الاستهجان يقول: قد بين عيوبنا وجهلنا للأجانب، ويكتبون
إلينا أن نترك مثلها [٤] ولكن لم يكن يسكت عن الجمهور غضبه علينا، ويقل خوضه
فينا، حتى رأينا كثيرًا من كُتاب المسلمين وخطبائهم قد تلوا تلونا، واحتذوا في
انتقاد حال المسلمين حذونا، حتى صار ذلك في الجرائد مألوفًا، وأصبح منكره عند
الأكثرين معروفًا، ولكن معظم كلامهم في الداء، من غير بيان للعلاج والدواء.
أما المنار فكان يصف العلاج لأمراض الأمة بالإجمال، ثم بالتفصيل
والاستدلال، والغرض من كل ذلك إعداد النفوس للعمل العظيم الذي نرجو أن يكون
قد قرب زمانه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: ٤-٥) .
هذا ما أردت بيانه في مقدمة الطبعة الثانية للسنة الأولى. والله الموفق وبه
المستعان. وكُتب في رمضان سنة ١٣٢٧.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مُنْشِئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني