للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الباب الثاني (الولد)
(١٣) من أراسم إلى هيلانة في ٦ يونيه سنة ١٨٥
اعلمي أن أخص ما يجب الرجوع إليه في إنشاء طبع الطفل هو علم وظائف
الأعضاء وإن كانت توجد وسائل أخرى يستعان بها في ذلك لا ينبغي إغفالها.
الوليد يرى في أول أمره محبًّا لنفسه منقبضًا عن غيره لضعفه وعجزه عن
الاختلاط فوظيفة المربي معه هي أن يعمد إلى ما وهبه الله (سبحانه) من الغرائز
المحدودة الكافلة حفظه فيجعلها أصلاً يفرع منه بالتدريج صنوفًا من الوجدان أرقى
وأشرف من محبة النفس والانقباض عن الناس تربطه بأمثاله وتعطف به على
أضرابه , ولا اعتداد عندي بما تسمى به هذه القوى السامية الطبيعية فلنسمها
أواصر أو عواطف مثلاً , وإنما الذي أعتد به ويهمني أن أقوله لك هو أنها ليست
خيالات ولا صورًا ذهنية بل هي حقائق ثابتة لها أصول راسخة في نفوسنا وفي
الخارج , فكل عاطفة من تلك العواطف النفسية لها ارتباط في الخارج بطائفة من
الوقائع فإن الشفقة مثلاً توجد عند رؤية آلام الغير ومصائبه , والشكر يوجد عند
الإحسان وإسداء المعروف , وحب الوطن منشؤه الاعتياد على الثواء بالأمكنة
والانتفاع بما فيها من الأشياء , ومحبة الناس تنشأ وتقوى بحسن المعاملة ولطف
المجاملة.
جميع العواطف الشريفة والسجايا الحسنة توجد في نفس الطفل لكنها تكون
كالنبات في طور البذر فالعالم النباتي مملوءٌ بأنواع من البذور ربما لا تتهيأ لها
ذرائع النجوم والإنبات طول حياتها لما يعوزها من أشعة الشمس والأرض الصالحة
للإنبات والماء بنسب مخصوصة كذلك شأن أصول العواطف والوجدانات الإنسانية
فإنها تحتاج في ظهورها ونموها إلى مستقر ملائم ومؤثر خارجي.
كلنا يعلم أن طبع الطفل ينمو بالمؤثرات الخارجية أكثر من نموه بالبواعث
النفسية فإن ما نفعله أمامه من الأفاعيل وما نرمي به من الأقاويل هو الذي يبعث فيه
الفرح تارة والترح أخرى خصوصًا في أوائل أيامه على أن ما لنا من التأثير في
طبعه مباشرة لا يكاد يكون شيئًا يذكر إلا ما تحوطه به أمه من ضروب العناية وما
تبديه له من أنواع الحنو والرعاية فإنه يدعوه من غير شك إلى حبها ولكن الطبع
كما علمت يتألف من قوى متمايزة كل التمايز يقتضي كل منها باعثًا خاصًّا - لو
وسعني أن أقول ذلك - فليس الإنسان ذاتًا بسيطة بل هو على ما أعتقد أكثر تركيبًا
في نفسه منه في جسده.
المشاعر الباطنة كالمشاعر الظاهرة في كيفية التأثر فالثانية كما تعلمين لا تتأثر
إلا في أحوال وبشروط خارجية مخصوصة؛ لأن مشعر اللمس مثلاً لا يتأثر إلا متى
لاقى أشكال الأجسام وجهاتها , ومشعر الذوق لا ينفعل إلا بما يقع عليه من الطعوم
كذلك الثانية لا تنبعث إلا عند اجتماع أمور واقعية مخصوصة فإن حلول الخطر
مثلاً يولد إحساس الخوف ولكنه لا يبعث وجدان الإنصاف مباشرة , ورؤية الطفل
ما يغمره به أهله من صنوف البر قد تلقي في نفسه وجدان محبتهم والميل إليهم
ولكنها قلما توقظ فيه إحساس الاحتشام والتواضع , والأحوال التي تحرك في النفس
عاطفة المروءة أو الشجاعة لا تؤثر في رقة الطبع كما أن الصوت لا يؤثر في العين
والضوء لا يؤثر في الأذن، فكل مشعر باطني أو عاطفة نفسية تقتضي شيئًا يناسبها
ويلائمها والطفل كالآلة الموسيقية كله أوتار تهتز إذا نقرت ولكنها لا تهتز اهتزازًا
حقيقيًّا إلا بما يقع عليها من الأشياء ولا تتأثر بجميع الأشياء على السواء وإنما لكل
انفعال قلبي طائفة منها تلائمه.
فإذا أردنا مثلاً أن نلقي في نفس الطفل الذي في السابعة أو الثامنة من عمره
وجدان الإحسان إلى الفقراء والزمْنَى فإيانا والخطابة والوعظ لأن أحسن مواعظ
الإنجيل لا تفيده في ذلك شيئًا بل علينا أن نذهب به إلى خص حقير يكون فيه هرم
أبلت الأيام قواه ونهكت الحمى جسمه وقد رقد على حصير ومد يده يسأل عواده قدح
ماء بارد ولننظر ما يكون منه في ذلك الوقت فإذا هو لم يبادر بنفسه إلى ملء جرة
من أقرب مورد وتقديمها بين يدي الرجل المسكين فقد حق اليأس منه وأما إذا تحرك
إلى هذا العمل الخيري فإيانا أن نسأله عن قصده به وعما يرجوه من الثواب عليه
فإن في شوب انبعاثه الصالح إلى البر بمثقال حبة من الفائدة الذاتية إفسادًا له.
قد بانت لك مما قدمته الغاية التي أرمي اليها في قولي وهي أنه إذا كان يوجد
في الطفل قوى كامنة تتنبه بالمؤثرات الخارجية التي تدعوها إلى الشخوص إلى
العمل وكان لهذه المؤثرات ارتباط ببعض الأمور والوقائع الخارجية فالواجب علينا
هو أن ننبه فيه بهذه الأمور تنبيهًا ما عواطف الحفاوة والسخاء واحترام النفس
والناس والنزاهة وغيرها من السجايا الحميدة. فالطريقة في تربية المشاعر الباطنة
لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي بينها علماء وظائف الأعضاء في تربية المشاعر
الظاهرة بل لا يوجد لتربية جميعها إلا طريقة واحدة لأنها كلها تجري على قانون
واحد ليس هناك غيره.
يوجد فرق واحد بين التربيتين، وهو أن الانفعالات في تربية المشاعر الباطنة
وما يولدها من الأشياء تخالف ما يقابلها في تربية المشاعر الظاهرة فإن الشيء الذي
تنفعل العين برؤيته مثلاً لا تنفعل به النفس دائمًا فعلى الأم أن تختار نوع الآثار
التي تريد إحداثها في نفس ولدها وتجعلها صنوفًا وأشكالاً وليس يعوزها في الحقيقة
شيء من الأحوال الملائمة لذلك فإن حياة الإنسان ليست إلا مشهدًا لسلسلة من
الحوادث المؤثرة ترى فيها كل حين آلات تحرك عاطفة الرحمة وعقبات تدعو إلى
التدرع بالشجاعة ومحن أعدت ليبتلى بها الصبر ولكن ينبغي لها أن تكون سليمة
الذوق كثيرة الحذق في اغتنام الفرص التي تُهَيِّئُهَا لها الحوادث , ثم اعلمي أن
الكتب قليلة الجدوى جدًّا في هذا الموضوع فالذي عليك أن ترجعي إليه في سيرتك
مع (أميل) هو قوتك الحاكمة وما يمليه عليك الوجدان من ضروب الإلهام , ولما
كان الطفل لا يلتفت إلا إلى الأشياء التي له فيها عمل كان من الحسن أحيانًا أن تدس
له فيها العراقيب (الحيل) لإثارة عواطفه الذاتية ولكن ينبغي هنا أيضًا الاحتراس
الكلي من ظهوره على ما يتخذ في ذلك من الحيل فإن شعوره بخداع المربي له هو
الخسارة الكلية.
اخترع المربون أنواعًا من الرياضة البدنية موافقةً لإنماء الأعضاء وخاصة
بها , والذي أعرضه عليك أنا هو فن من فنون الرياضة النفسية تقوى به الغرائز
والأخلاق؛ لأن خصائصنا ونقائصنا تقوى بالمراس والاعتياد فالفضيلة تكتسب
بالتعلم ولكن هيهات أن تُتعلم إلا بممارستها والارتياض بها وقد جاء في الأمثال
(بِطَرْق الحديد يصير الإنسان حدادًا) , فكذلك هو لا يكون خيرًا إلا بعمل الخير
فالعملَ العملَ ما دام حيًّا.
أرجىء البحث في قانون الأخلاق الحق لأني لا بد لي من النظر فيه عند
الوصول إلى محله وأكتفي الآن منه بذكر قاعدة في غاية الإيجاز والبساطة وهي أن
الطفل يصلح طبعه وتتهذب نفسه كلما زالت منه غرائز الأثرة وحلت محلها
العواطف التي تأخذ بقياده إلى الصالح العام ولكن هيهات أن يكتنه هذا الناشئ أسباب
سيرته مع غيره خصوصًا معنى الواجب فإنه من الغموض والخفاء بحيث لا ينفذ
إليه ذهنه الضعيف وغاية ما يمكنه إدراكه هو رضاه عن أعماله ورضى الناس عنها
ولما في أعمالنا الصالحة من اللذة التي لا تقل عن لذة أعمالنا السيئة إذا نحن لم
نتربَّ عليها لا يلبث أن يختار الأولى ويرجحها على الثانية متى ساعدناه قليلاً
بتوسيط البواعث الخارجية فإن الأشياء كما يوجد فيها شيطان رجيم على ما علمت
يوجد فيها أيضًا في بعض الأحيان ملك كريم. فإذا كان بعضها يحرك فينا دواعي
الطمع فإن بعضًا آخر يبث فينا وجدان البر والخير.
يجب علينا أن نعين الطفل على تربية مشاعره الباطنة ولكن علينا أيضًا أن
نحترم إرادته ولا نغفلها فلو أني أوتيت القدرة على تدبير ما يَحْتَفّ بـ (أميل) من
بواعث العواطف وعلى مراقبته في سيرته مراقبة تامة وأمكنني بالإجمال اختراع
طريقة للتربية النفسية تسمو بمقاصده حتمًا إلى الكمال لما عولت عليها في إنشائه مهما
كان فيها من الحسن فإني أرجو من صميم فؤادي أن يكون يومًا من الأيام رجلاً خيرًا
لا حيوانًا خيرًا , وأعيذه بالله من فضيلة لا يكون كسبها بسعيه وهمته ومن سعادة لا
يكون هو الذي حصلها لنفسه فإنه إن أوتي عفوًا هذه السعادة التي هي الامتياز التعيس
لمن خلقوا لها يكون قد ابتاعها بثمن غال جدًّا وهو خسارة اختياره. كل فرد من أفراد
المجتمع الذي أعد ولدنا للمعيشة فيه مسوق على الدوام إلى الجلاد والمغالبة في ميدان
الحياة فيجب عليه أن يقاوم مقاومة البسلاء آراء الناس وتأثير الأسى وجميع مؤثرات
العصر الخادعة وإلا خسر معرفته قدر نفسه وأقدار الناس لأن شرف الإنسان وفضله
مشروطان بأن يكون ذا إرادة تصدر عنها أفعاله وما علي إن تكدر بعض الناس من هذا
الشرط اللازم ما دمت أنا مسرورًا به فإنه إذا لم يكن للمرء وجود مستقل ووجدان ففيم
يكون شرف حياته اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))