للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أمالي دينية
(الدرس ١٢)

م (٣٤) العلم
معنى العلم بديهي في نفسه وأعم تعريف له أنه انكشاف الشيء للمستعد له
ويسمى الشيء المنكشف معلومًا ومن انكشف له عالمًا , وإذا كان متعلق العلم كثيرًا
سمي عليمًا وعلامًا , ولم يرد إطلاق لفظ (العالم) على الله تعالى في القرآن إلا
مضافًا إلى المعلوم كقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: ٧٣) وورد {عَلاَّمُ
الغُيُوبِ} (المائدة: ١٠٩) وأما لفظ (عليم) فهو الذي كثر إطلاقه عليه تعالى
بصيغتي التعريف والتنكير لأن وزن فعيل يدل على الصفات الثابتة كما تعلم من
التفسير في الباب الآتي قال تعالى: {وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: ٨١) وقال:
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: ٢٩)
كل فعل يصدر من فاعل يشتق له من اسمه وصف؛ يحمل عليه , وإن من
الأفعال ما له مبدأ خاص ثابت في نفس الفاعل لا يصدر الفعل إلا عنه , ومنها ما
يستند إلى مبدأ عام مثال الأوّل: الرحمة والعطف على البائس , ومثال الثاني:
المشي فإنه يستند إلى القدرة وليس له مبدأ خاص في نفس الماشي. وإن من الأفعال
ما إذا حصل يثبت ويستمر كالعلم ومنها ما ينقطع كالشم والإعطاء , فما له مبدأ
خاص في النفس واستقرار فيها جدير بأن يسمى صفة ذاتية , وما ليس كذلك حقيق
بأن يسمى صفة فعل , والذين دققوا في تفسير الألفاظ قالوا: إن العلم كما يطلق على
انكشاف الشيء للعالم فعلاً يطلق أيضًا على مبدأ هذا الانكشاف ومصدره في النفس
علمت حقيقته أو لم تعلم , وكل هذا ظاهر بالنسبة للإنسان.
أما الذي قام عليه البرهان من علم الله - تعالى - فهو أنه بكل شيء عليم وأن
هذا العلم ثابت له أزلاً وأبدًا فهو المحيط بجميع المعلومات قبل وجودها وبعده وعلمه
بها قبل وجودها يسمى علم الغيب وبعد وجودها يسمى علم الشهادة وهو سبحانه
(عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم) وما زاد على هذا من البحث في أن
لعلم الله تعالى مبدأ قائمًا بنفسه تعالى وتقدس فهو أشبه بقياس الواجب على
الممكن والقديم على الحادث وهو الذي أدى بالمتكلمين إلى الحيرة ومصارعة
الشبهات لأن القول بأن الصفات الذاتية كالعلم والإرادة لها وجود مستقل قائم
بالذات بحيث لو كشف عنا الحجاب لرأيناها (كما قال بعض المجتهدين في تقليد
المتأخرين) يقتضي تعدد الواجب وقد أراد بعضهم الخروج من هذه الشبهة فقال: إن
صفات الذات عين الذات ورُدَّ عليه , والجمهور على أنها ليست عين الذات ولا غير
الذات. ولم يكلفنا الله تعالى بشيء من هذه الأبحاث الفلسفية وإنما كلفنا بأن نعتقد أنه
بكل شيء عليم , والبرهان العقلي يدل على هذا , وقد تعذر على حكماء العالم اكتناه
حقائق الممكنات فكيف نحاول اكتناه صفات الواجب القديم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) .
م (٣٥) أما البرهان على علمه تعالى
فحسبك ما أرشد إليه الكتاب العزيز بقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك:
١٤) بلى فإن العقل لا يتصور أن صانع آلة الساعة ومبدعها غير عالم بها وبكل ما
يتوقف عليه اختراعها وعملها من العلوم والفنون ولا أرى من حاجة للإطالة في
الاستدلال هنا إذ لا يوجد في العالم من يثبت وجود خالق للكون وينكر أن علمه بكل
شيء محيط , والمجال واسع لمن يريد السباق في هذه الحلبة لا سيما لمن له وقوف
على العلوم الطبيعية من جماد وسائل وغاز وحيوان وعلم الهيئة الفلكية فإن جميع
العوالم والكائنات التي يبحث عنها في هذه العلوم قائمة بنظام كامل مبني على أساس
الحكمة ولها سنن ونواميس ثابتة اهتدى الباحثون إلى بعضها فحارت عقولهم في هذا
الإبداع , ودلهم ما علموا منها على صدق قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلا} (الإسراء: ٨٥) فإن الجاهل المطلق لا يخطر في باله ما ينبغي أن يعلم
فيتوهم أنه يعلم كل شيء وكلما اهتدى الإنسان إلى مسألة من مسائل العلوم
الصحيحة؛ تنفتح له بها كوَّة في العالم يشرف منها على كوًى كثيرة يتحقق أن
وراءها مشاهد عظيمة تتوقف على فتحها فيزداد علمًا بجهله ويطلب المزيد , ومن
ثم ورد في الحديث الشريف: (منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال) وقد
لاحظ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - هذا المعنى فقال:
كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
وإذا كان الإنسان أكمل المخلوقات عاجزًا عن إدراك كل هذه الحكم والإحاطة
بجميع هذا النظام فهل يصح أن يكون مصدر ذلك من هو دونه في العقل فضلاً عن
(حركة المادة) يهذي بها الماديون وما هي إلا عرض لا يصح في العقل أن يكون
مصدر هذا النظام البديع.
ما أشدَّ غفلة هؤلاء الماديين إذ قالوا: إن حركة المادة هي الفاعلة والمدبرة
لهذه العوالم من النقاعيات (الميكروبات) التي يعيش الملايين منها في نقطة
صغيرة من الماء تسبح فيها وتتغذى وتتوالد على أكمل نظام ولها أعمال تعجز عنها
الرجال فإن جحافلها تكر على الإنسان وغيره فتفتك به ما لا يفتك المكسيم والموزير ,
وتؤثر في كل حيوان ونبات - إلى الحيوان والإنسان الذي حارت الأفكار في حكمة
كل عضو من أعضائه لا سيما المشاعر فإن العين مؤلفة من طبقات ورطوبات ولها
من الرباطات، والأوردة، والشرايين، والأشكال الهندسية، والألوان الموافق كل
ذلك لسنن النور ونواميسه بحيث لو تغير وضع من أوضاعها لاختلت وظيفتها،
وذهب الإبصار فهل هذا كله من فعل حركة المادة أم هو فعل العليم الحكيم؟
((يتبع بمقال تالٍ))