للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أمالي دينية
(الدرس الثالث عشر)

م (٣٦) الإرادة
ما تقدم من البحث في العلم من حيث كونه صفة يأتي في الإرادة وفى غيرها
من الصفات الذاتية. الإرادة صفة يخصص بها الفاعل في فعله بعض الوجوه
الممكنة المتقابلة على بعض بحسب العلم بوجوه التخصيص والترجيح فوظيفتها
بعث القدرة على العمل الذي يجزم العلم بأن فيه المصلحة والحكمة وقد اشتبه على
كثير من الناس فهم الإرادة فمن الناس من يظن أنها بمعنى المحبة والرضى ولذلك
قالوا: إن ضدها الكراهة , والصواب أن ضدها (عدم الإرادة) يصدق بأمور منها
كون الفعل يصدر بالإجبار والإكراه ومنها كونه يصدر بالعلة والطبع والحق أنه ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يشاء الله إلا ما سبق في علمه وإلا لزم الجهل
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ومنهم من لا يفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة
الإنسان حيث يتوهم أن معنى إرادة الواجب صفة يصح له بها أن ينفذ ما قصده وأن
يرجع عنه , وهذا محال في جانب الواجب كما قال أستاذنا في رسالة التوحيد (فإن
هذا المعنى من الهموم الكونية والعزائم القابلة للفسخ وهي من توابع النقص في العلم
فتتغير على حسب تغير الحكم وتردد الفاعل بين البواعث على الفعل والترك) .
م (٣٧) أما الدليل على إثبات الإرادة للبارئ تعالى؛ فهو لازم لدليل إثبات
العلم لأن من يجزم بأن علم الله تعالى محيط بكل شيء بدليل أنه خالق كل شيء ,
وأنه لا يُعْقَل أن يخلق ما لا يعلم ويعرف مع هذا أن كل هذه المخلوقات يجوز في
العقل أن تكون على غير ما هي عليه بأن يكون الكبير صغيرًا والأسود أبيضًا إلى
غير ذلك من الوجوه الممكنة وما يقابلها يجزم بعد الإحاطة بما ذكر بأن الإرادة هي
التي رجحت بحسب العلم ما كان على ما لم يكن من الوجوه الممكنة.
م (٣٨) القدرة
هى الصفة التى يكون بها الفعل والتأثير والتحويل والتغيير , ودليلها ما بيناه
أولاً من أن جميع الممكنات صادرة عن الواجب تعالى ثم ما بيناه أخيرًا من أن
صدورها عنه إنما هو بتخصيصه المطابق لعلمه , وهل يعقل أن الفاعل بإرادة عن
علم لا يكون قادرًا؟ كلا {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ٢٠) .
م (٣٩) الاختيار والنظام
الاختيار: هو أن يُصدر الفاعل الفعل بقدرته وإرادته الموافقة لعلمه لا
بإيجاب موجب ولا قهر قاهر ولا بالعلة العمياء ولا بالطبع الذي لا شعور معه.
وهذا المعنى لازم لثبوت الصفات الثلاث (العلم والإرادة والقدرة) , ثم إن الأفعال
الاختيارية يكون كمالها ونظامها وإتقانها وإحكامها بحسب كمال العلم وإحاطته بوجوه
المصالح ومواقع الحكمة والنظام. وعلم الله تعالى كسائر صفاته في منتهى الكمال
فأفعاله تعالى في غاية الكمال {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ
يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: ٣-٤) . فإذا أمكن أن يكون
علمه - تعالى وتقدس - قاصرًا عن الإحاطة بكمال النظام أو أن قدرته قاصرة عن
إنفاذ ما علم أنه الكمال (سبحانه سبحانه) يمكن أن تكون هذه العوالم التي هى أثر
علمه وحكمته وإرادته وقدرته ناقصة وغير تامة النظام ولكن ذلك غير ممكن وما
يترتب عليه ويلزمه أيضًا غير ممكن فثبت قول حجة الإسلام الغزالي (ليس في
الإمكان أبدع مما كان) ولا تستلزم هذه الكلمة نقص القدرة كما توهم بعض أهل
العلم كيف وهى لازمة لكمالها وكمال العلم والإرادة والحكمة. فلا يقال: إن الله
تعالى قادر على فعل الخلل وإفساد النظام لأن هذا محال والقدرة لا تتعلق بالمحال ,
كما لا يقال: إنه ليس بقادر على ذلك لأن الذي يصح أن ينفى هو الذي من شأنه أن
يكون ثابتًا وقد اتفقوا على أن القدرة والإرادة لا تتعلقان إلا بالممكنات وأنه ليس من
النقص في القدرة عدم تعلقها بإعدام الواجب أو ايجاد المستحيل , وقد تقدم هذا
البحث في درس سابق. وجاءَ في فاتحة مقصورتنا في هذا المعنى قولنا:
تبارك البارئ مبدع الورى ... بحكمة تروق أرباب الحجى
براه من حيث رَصَاه فانبرى ... مستحصف المرير مشدود العرى [١]
أنشا من الهباء كل صورة ... فسمك السماء والأرض دحا [٢]
ثمت أعطى كل شيء خلقه ... بحسب استعداده ثم هدى
وخلق الأشياء أزواجا وقد ... قضى بناموس تنازع البقا
فابعث رسول الطرف منك رائدًا ... يجوب أجواز البحار والفلا [٣]
واسر به للأفق في مراصد ... معراجها يدني إليك ما نأى
وأرسل الفكر رسولاً ثانيًا ... لعالم الأرواح يسعى والنهى
حتى إذا جاسا خلال الدار من ... عوالم الحس وعالم الحجى
سائلهما هل ثَمَّ من تفاوت ... أو خلل في البدء كان أوعرى
أنى وتلك مظهر الحق بها ... قد ظهرت لسماه جل وعلا
من جري هذا قيل لا إمكان في ... أبدع مما كان قبل وجرى [٤]
فارجع إليها الطرف كرتين واس ... تجل دناج الأمر من ثني القضا [٥]
ترى هناك سننًا حكيمة ... لا يعتريهن العفاء والوهى
((يتبع بمقال تالٍ))