للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الموالد والمواسم

هل يمكن الانتفاع بالموالد؟
أكمل حياة الإنسان الحياة الاجتماعية , فمن يكره أي اجتماع لذاته فهو كاره
لكمال الإنسانية وهذا لا يكون من إنسان , ولا يختلف عاقلان في أن التفرق والتبدد
أولى من الاجتماع على الشرور والاتفاق على الفجور , وإذا كان في الاجتماع خير
وشر ونفع وضر لا يمكن أن يزولا إلا بزواله فالحكم فيه إنما هو بالقاعدة المتفق
عليها شرعًا وعقلاً وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولكن إذا أمكن
إزالة المفاسد أو تحويلها إلى مصالح , وجب ذلك ولا يجوز السعي حينئذ في إبطال
الاجتماع نفسه , وإنما يسعى في تطهيره وتنقيته من كل ما يذم وفي تنمية منافعه
وزيادة فوائده.
وهذه الاحتفالات والاجتماعات المصرية التي تسمى بالموالد شرها أكثر من
خيرها وإثمها أكبر من نفعها بل يمكن أن يقال: إن منفعتها الجزئية محصورة في
مصلحة سكة الحديد وليس للأمة فيها نصيب من حيث إنها أمة لأن الحركة التجارية
الخفيفة التي تكون فيها على اختصاصها بأفراد محصورين لا يقال: إن فيها ترقية
للأمة ومنفعة لها كما هو الشأن في الاجتماعات الكبيرة في بلاد المدنية التي تسمى
بالمعارض بل هي في مصر أقل فائدة تجارية من الاجتماعات الصغرى التي تسمى
بالأسواق. ولا يقال: إن هذا الشيء مفيد للأمة إفادة مادية مالية إلا إذا كانت الفائدة
واردة إليها من بلاد غير بلادها ومن شعوب غير شعوبها , وليس في هذه الموالد
شيء من هذا. وكيف يصح أن يقال: إن هذه الموالد معارض عمومية وينابيع
للثروة إذا كانت الفائدة المادية محصورة في البغايا والراقصات والمشعوذين وبائعي
الحمص , والفائدة الأدبية والدينية تزداد في كل مولد منها اضمحلالاً وتلاشيًا حتى
كاد الدين والأدب ينعدمان بالمرة.
من يقول: إن اجتماعًا يضم المليون والمليونين من الناس في بلد واحد كمولد
السيد الكبير لا يمكن الانتفاع به لو وجد في الأمة رؤساء للدين وللدنيا همهم القيام
والسعي في المصلحة العامة التي ترقي الأمة حسًّا ومعنى؟ ولكن هذه الأمة
المسكينة التي لم يوجد دين اجتماعي كدينها ولا شرعية عمرانية كشريعتها بُلِيَتْ
برؤساء إفراديين في الدنيا والدين عموا عن كل ما في القرآن من الأصول
الاجتماعية حتى لا تكاد تجد في كتب علمائهم - فضلاً عن كلامهم اللفظي - ذكرًا
للأمة كما لا تجد في أمرائهم وملوكهم إلا المستبد فيها بسلطته الشخصية الهادم
لقواعدها الدستورية الشوروية على ما بيناه مفصلاً في المقالات التي نشرناها في
السنة الأولى تحت عنوان قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلاْ} (الأحزاب: ٦٧) .
فإذا كانت الصواعق التي تنقض على رؤوس الأمة ورؤوسهم آنًا بعد آن قد
أيقظت هؤلاء الرؤساء من نومهم المستغرق فلا شك أنهم يمكنهم تحويل مضار هذا
الاجتماع إلى منافع مادية ودينية وأدبية وسنبين ذلك في جزء آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))