للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قسم الموالد والمواسم

كيف ننتفع بالموالد والمواسم
للانتفاع بالموالد طريقتان إحداهما للحكومة وثانيتهما للعلماء والمرشدين. أما
الأولى فهي أقرب منالاً؛ لأن الحكومة على كثرة ما يذمها الناس ويرمونها بالولع
والشغف بإيذاء الرعية هي أقرب إلى القيام بالمنافع الاجتماعية من رؤساء الدين
الذين لا يكاد يلوح في خيالاتهم أنهم مكلفون بعمل ما للأمة بمجموعها إلا أن يسأل
أحدهم عن حكم فقهي، فيجيب عنه بأجر، أو بغير أجر , أو يطلب منهم أحد أخذ
(العهد) فيعطونه بمقابل عاجل أو آجل , وهذا من الأمور الفردية لا نظر فيه للأمة
بمجموعها وكيف تسعد وتشقى وكيف تصلح وتفسد , وساداتنا الكرام لا ينكرون هذا
ولكنهم يعتذرون عنه بأن النظر في المصالح الاجتماعية موكول للحكام دون غيرهم
ولذلك نرى العقلاء الباحثين يائسين من أي إصلاح في مثل هذه الموالد يتوقف على
العلماء , ولهم في هذا كلام كثير لا نحب الإطالة فيه , وحسبك أنهم يتهمونهم بأنهم
يودون بقاء هذه الموالد مهما عم فسادها لما يصيبهم فيها من حظوظ الدعوات
والولائم، ونحن لا نسلم بكل ما يقوله الناس في هذا المقام ونعتقد أنه لا يوجد مسلم
أصاب شمة من علم الدين أو من الإسلام نفسه إلا ويود إصلاح هذه المجتمعات
العمومية , ولكن علماءنا ما تعودوا النظر في الإصلاح الاجتماعي ولو وجهوا
أنظارهم إليه وعلموا كيف يستعملون نفوذهم الروحي وسلطتهم الدينية؛ لبادروا إلى
العمل ولكان لهم من الإصلاح أفضل الأثر وسنبين السبب في إعراضهم عن شئون
الأمة الاجتماعية وعذرهم الحقيقي في ذلك. وأما مشايخ الطرق وهم زعماء هذه
الموالد ومديرو أرحيتها فهم في الغالب من التحوت والهمج الذين لا يرجى الإصلاح
لهم فما بالك بالإصلاح منهم. يجيء أحدهم من البيت أو الغيط بل ومن الحانة
والماخور فيطلب منشور المشيخة فيعطاه بريال واحد ويصير بذلك مرشدًا للأمة
يجلس على سجادة الإمام الجنيد - رضي الله عنه , وقد طال بنا الاستطراد حتى
كدنا نتكلم عن الطريقة الثانية قبل الكلام على الأولى القريبة وهي:
يمكن للحكومة أن تجعل على كل من يحضر المولد ضريبة لا تقل عن قرشين
فيجتمع لها بذلك من موالد السيد الثلاثة نحو الأربعة ملايين إذا فرضنا أن من
يحضرها مليونان فقط , والموالد في مصر تعد بالمئات فيما أظن , ومنها ما يناهز
بمن يحشر إليه مولدًا من موالد السيد أو يزيد على بعضها , وبهذه الملايين الكثيرة
يمكنها أن تعمل أعمالاً كبيرة في إصلاح هذه المجتمعات الصحي والمادي والأدبي
يمكنها أن تبني محل الاجتماع العام. حيث تنصب السرادقات وتضرب الخيام.
فتجعل له طرقًا فسيحة يقل فيها الزحام. ومعاهد مخصوصة لكل صنف من الأنام.
فلا يتقارب الأبرار والفجار. ولا يتجاور أهل القرآن والأذكار. مع أهل الطبل
والمزمار. وتجعل في بعض المواضع مراحيض ومناصع (هى المحلات التي
يتخلى فيها لبول ونحوه) تستوفى فيها الشروط الصحية. إلى غير ذلك من لوازم
المعارض المدنية , ومتى شرعت الحكومة بذلك فهي أدرى بما هنالك. وأما
الطريقة الثانية فهي متوقفة على وجود الرجال المصلحين من العلماء والمرشدين ,
وقد علم القراء مما نشرناه غير مرة أننا ذاكرنا في هذا الموضوع شيخ مشايخ
الطرق سماحتلو السيد توفيق البكري فاعترف بشدة الحاجة إلى إصلاح هؤلاء
وخطر له أن يؤلف كتابًا في كيفية السير التي يجب أن يكون عليها مشايخ الطرق ,
واستحسن أن يكون كاتب هذه السطور هو المؤلف لذلك الكتاب بل أشار بتأليف
كتابين أحدهما يسمى (الشيخ) ويكون في وظائفه وآدابه , وثانيهما يسمى (المريد)
ويكون في وظائفه.
وتأليف الكتب في هذا ليس بالعسير , ولكن العسير إلزام أولئك المشايخ
الجهال بالعمل به إذا قلنا: إنهم يفهمونه بمجرد قراءته ويصلون إلى الغاية منه.
وكيف يعملون باختيارهم عملاً يهدم بناء خرافاتهم , ويدك صروح خزعبلاتهم.
وينضب معين ثروتهم , ويغيض ينابيع معيشتهم. ويفرض عليهم العمل وقد ألفوا
البطالة والكسل , ويحظر عليهم السحت وهو رزقهم البحت. إلى غير ذلك مما
يعرفه الأكثرون في أكثرهم. ولا يجهله أكبرهم في أصغرهم. والرأي الصحيح في
الإصلاح. الذي يقرن به النجاح والفلاح؛ إنما هو استئصال هذه الجراثيم الوبيئة
واختيار طائفة من الشيوخ المهذبين العارفين بالدين والآداب وطرق التهذيب ولو في
الجملة فهؤلاء هم الذين تنفعهم الكتب والإرشادات.
القمار في الكبار والصغار
القمار آفة الكسب وجائحة المال ومفسدة الأعمال وميكروب الكسل ومجلبة
الزلل , ولقد ابتلي به المصريون ابتلاء أفقر أغنياءهم وأذل كبراءهم من أصيب به
منهم. وكل مصري يعلم أن بلاء المضاربات في هذه السنة كان أشد من بلاء
انخفاض ماء النيل ونقص غلة الأرض , وليس من غرضنا الآن شرح مضاره
وبيان خساره , وإنما الغرض التنبيه على أن الفقراء والمساكين قلدوا الأمراء
والأغنياء في هذه الموبقة كما هي سنة الكون فأدخلوا المقامرة في كل الخسائس
والمحقرات حتى تجد باعة الفستق لا يبيعون الآن بالدراهم وإنما يأخذ أحدهم قبضة
ويسأل مريد الشراء: (أزوج أم فرد؟) فإن جاء عددها كما يقول المالك أخذ ثمنها
مضاعفًا وإلا أعطاها مجانًا , وقد شاهدنا هذا بنفسنا وهكذا يجني الكبراء على سائر
الناس وهم الذين يخربون البلاد ويهلكون العباد.
القرافة ومنكراتها
إن شأن المسلمين في مقابرهم لمن أعجب الشئون لا ينطبق على شرع ولا
عقل ولا ذوق. يبنون القصور على القبور ويجعلون فيها الأثاث والرياش والآنية
والماعون وكل ما يحتاجه السكان المقيمون ويقضي الكثيرون منهم أيام العيد فيها
أكل وشرب ولهو ولعب. إلخ إلخ
إذا قرأ هذه الكلمات من لا يعرف عادة هذه البلاد , ولم ير مقابرها والطرق
الموصلة إليها؛ يتخيل أن الطرق إليها وفيها أنظف من طرق المدينة لأنها من جهة
منتزه ومن جهة أخرى لا تستغني طبقة من الطبقات عن السير فيها لتشييع الجنائز
إذ لا يوجد في العالم طريق يمر فيه كل فرد من كل طبقة إلا طريق المقبرة , ومع
هذا نرى طريق قرافة مصر في أسوأ حالة , وسنبين ذلك مع طريقة إصلاحه في
جزء آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))