للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية العرب
نبذة خامسة

الإرجاء في مقالات الموضوع الواحد. تاريخ علم الحساب. اعتراف
الإفرنج للعرب بأنهم أساتذتهم فيه. نسبتهم الأرقام الحسابية للعرب. إضافة
العرب المتأخرين لها إلى الهنود خطأ. أقدم كتاب توجد فيه هذه الأرقام. وضع
العرب لعلم الجبر والمقابلة. حظ من سبقهم منه. كيف توضع العلوم. علماء الجبر
وكتبه. الهندسة. استبدال أنصاف أوتار الأقواس بأوتار الأقواس. مساحة
المثلثات. الخطوط المماسة. حساب الأقواس. القانون الخامس لحل مثلثات
الزوايا القائمة. علماء الرياضة المسلمين. العلوم الرياضية عند المسلمين اليوم.
أكثر المواضيع التي نكتب فيها واسعة الميدان. كثيرة الفروع والأفنان. فإذا
أخذنا في موضوع منها يعارضنا في الاسترسال بتحقيقه. ومتابعة السير في طريقه
التفادي من ملل القراء الكرام. وسنوح المناسبة لمقال آخر يقتضيه المقام. ومن
المواضيع التي تركنا الكتابة فيها قبل أن نبلغ منها ما نريد كرامات الأولياء ومدنية
العرب , وقد طال العهد على الأولى وما هو من الآخرة ببعيد. فنعود إلى القريبة
العهد ثم نكر على البعيدة من بعد. وقد كان آخر ما كتبناه عن العرب تقدمهم في
العلوم الفلكية. ونعقبه الآن ببيان شأنهم في الفنون الرياضية. لما بين الرياضة
والفلك من الولاء والحب بل من الإخاء والقرب.
العلوم الرياضية
علم الحساب أو العدد
هذا العلم قديم في البشر لا يعلم واضعه لأنه من الضروريات التي تهدي
الإنسان إليها فطرته , ولا بد أنه كان معروفًا للكلدانيين الذين هم من أقدم الأمم فيما
يعرف من التاريخ لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك وهو يتوقف على الحساب ,
ولكن لا يعرف للأمم القديمة فيه آثار ومصنفات ترجع إليها الأمم المتمدنة الآن وتعد
تلك الأمم هي المفيدة لها هذا العلم الذي هو سلك عقد الاجتماع البشري ولا يعرف
الإفرنج إمامًا لهم فيه إلا العرب حتى إنهم يسمون الأرقام المستعملة عندهم الآن
الأرقام العربية ويعترفون بأنهم أخذوها عن العرب وهذه الأرقام هي التي تقدم بها
علم الحساب وكانوا قبلها يشيرون إلى الأعداد بحروف المعجم , وهذه الأرقام
الإفرنجية قريبة الصورة من الأرقام العربية واستعمالها أسهل من استعمال الأرقام
الرومانية , بل استعمال الحروف أسهل من هذه , وأهل المغرب الأقصى الإسلامي
يستعملون الآن الأرقام التي يستعملها الإفرنج , ولعل أهل الأندلس كانوا يستعملونها
أيضًا , وعنهم أخذ الإفرنج , ومن الغريب أن العرب من عهد بعيد إلى اليوم يسمون
الأرقام العربية بالأرقام الهندية , والمعروف عند مؤرخي الإفرنج أن الهنود أخذوها
عن أوربا من زمن ليس ببعيد وأن أهل أوربا أخذوها عن العرب كما قلنا آنفًا.
وأقدم مصنف في الحساب استعملت فيه هذه الأرقام هو كتاب الرئيس ابن سينا
الفيلسوف الإسلامي الشهير ويوجد في المكتبة الخديوية بمصر.

الجبر والمقابلة
هذا الاسم عربي ظاهر وهو يدل على أن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
واخترعوه , وبذلك قال بعض المؤرخين والإفرنج يعترفون بأنهم أخذوه عن العرب
باسمه ومسماه. ومن المؤرخين من فند القول بأن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم
وقالوا: إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف فيه ,
وكتبه لم تزل موجودة إلى الآن والحق أن هذه الكتب وهى ستة ليس فيها إلا
قواعد استخراج القوات وطريقة حل المسائل , وليس فيها أصول الفن وقواعده
الأساسية التي امتاز بها وصار فنًّا مستقلاًّ. وإنما فعل ذلك العرب وأكثر العلوم
والفنون ما اهتدى واضعوها إلى جعلها علومًا ممتازة وأصَّلوا أصولها واستخرجوا
منها الفروع إلا بعد ما اهتدى قبلهم الناس إلى بعض مسائلها. وينقل عن سيدنا علي
عدة مسائل حلها بالجبر , واعتبر ذلك بفنون البلاغة التي قالوا: إن مؤسسها
وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني تجد أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في
بعض مسائلها , ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علمًا كما جعلها. قال الحكيم
العربي ابن خلدون: إن أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده
أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه , وكتابه في مسائله الست من
أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. وأما موافقة
كتاب محمد بن موسى في الجبر لطريقة أهل الهند فلا يدل على أن العرب أخذوا
الجبر عن الهنود , وأول من ألف فيه من أهل أوربا لوكاس باتشيولوس دي بورغو
الإيطالي (طبع كتابه سنة ١٤٩٤م ثم سنة ١٥٢٣) وذكر في مصنفه أن ليونرد
وبوناتشيو التاجر تعلم الجبر في أوائل القرن الثالث عشر من العرب في سواحل
أفريقية والشرق , والعرب هم الذين طبقوا الجبر على الهندسة , ويوجد في كتب
الجبر العربية التي لا مجال للقول بأن أصحابها أخذوا عن الإفرنج استعمال
الحروف في الجبر بدلاً من الأرقام وهو يدل على أن العرب هم الذين سبقوا إلى
هذا الاختراع خلافًا للذين يقولون: إنه من استعمال الإفرنج.

الهندسة والمساحة وفروعها
ذكرنا في النبذة الثالثة أن العرب ترجموا على عهد المأمون هندسة إقليدس
وتيودوس وأبولونيوس وإسيقليس ومينيلوس وشرحوا أيضًا مؤلفات أرشميدس في
الكرة والأسطوانة وغيرها , وذكر المحقق ابن خلدون وغيره أن كتاب إقليدس ترجم
في زمن أبي جعفر المنصور ثم اجتهد العرب في الفن اجتهادًا لم يدع لمن بعدهم إلا
تقليدهم , وأنت ترى أن أهل الغرب ما زادوا على العرب في نظريات الهندسة شيئًا ,
وإنما زادوا في الانتفاع بالهندسة عملاً لكثرة اختراعاتهم الطبيعية.
ومن علماء الرياضة في العرب البتاني الذي تقدم أن الإفرنج يسمونه
بطليموس العرب وهو الذي اخترع استبدال أنصاف الأوتار للأقواس المضاعفة
(وهى جيوب الأقواس المصورة) بأوتار الأقواس التي كان يستعملها اليونانيون في
حساب المثلث وقال: إن بطليموس لم يكن يستعمل الأوتار الكاملة إلا لتسهيل
الإثبات والتوضيح. ووصل إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحة المثلثات الكروية
واستعملها في مواضع كثيرة. واخترع أيضًا عبارة جيب وتمام جيب - ولم يكن
يستعملها اليونان -، والخطوط المماسة للأقواس وأدخلها في حساب الأرباع
الشمسية وسماها الظل الممدود وهو المعروف في كتب المتأخرين بالخط المماس
المستعمل في حساب المثلثات. ثم اهتدى العرب في زمن ابن يونس وزمن أبي
الوفاء (وتقدم تاريخهما في علم الفلك) إلى استعمال الخطوط المماسة في مساحة
المثلثات , واخترع ابن يونس حساب الأقواس التي سهلت قوانين التقويم وأغنت
عن كثرة استخراج الجذور المربعة. وشرح أبو الوفاء مسائل الجيوب واهتدى من
ذلك إلى معرفة خطوط أُخَر تتعلق بمساحة المثلثات واستعملها في كتابه لحل
نظريات في علم الفلك المطبق على الكرة.
ومن علماء الرياضة جابر الفلكي المتوفى سنة ٤٤٢) الذي وضع القانون
الخامس من القوانين الستة المستعملة في حل المثلثات ذوات الزاوية القائمة ولم يكن
عند اليونان إلا أربعة قوانين. والذين ألفوا في الهندسة وفروعها كثيرون منهم ثابت
بن قرة ويوسف بن الحجاج والرئيس ابن سينا فقد أفرد لها جزءًا من الشفاء ,
وابن الصلت , وابنا شاكر , وابن الهيثم وأبو الحسن علي المهندس الفلكي وغيرهم
وقد عاد المسلمون إلى هذه العلوم بإلزام الحكومة تعليمها في مدارسها لحاجتها
إليها في أعمال كثيرة مدنية وحربية لا تقوم إلا بها , وأما أهل الأزهر الشريف فلا
يزال معظمهم يعاديها باسم الدين ولا بد أن يستدير بهم الزمان حتى يعودوا إلى ما
كان عليه أسلافهم الكرام , أو يلقيهم في زوايا الإهمال، أو الإعدام ويقضي الله أمرًا
كان مفعولاً. ونسأل الله توفيق علماء هذه الأمة، وعامتها إلى ما فيه خيرها
ورشدها إنه سميع الدعاء.
((يتبع بمقال تالٍ))