للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البدع والخرافات

الديانة البهائية وكتاب الدرر البهية
أعظم بدعة ظهرت بين المسلمين في هذا العصر فتنة البابية والبهائية فإن
هؤلاء قد ابتدعوا دينًا جديدًا لا مذهبًا جديدًا كما يتوهم الغافلون , وأساس مذهبهم أن
زعيمهم (بهاء الدين) الإيراني دفين عكا هو الروح الأعظم وهو المعبر عنه
بالمسيح ابن مريم الذي ينتظر أهل الكتاب نزوله من السماء. بل هو الموعود به
في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: ٢١٠) ويجرون عليه جميع أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: ٤٣) وبالجملة إن دينهم
خلاصة المذاهب الباطنية. وهو أقرب إلى المسيحية من الإسلامية وقد كانوا
يدعون إليه سرًّا ولم يطبع لهم كتاب في البلاد العربية قبل كتاب (الدرر البهية)
الذي طبع في هذه الأيام. وفيه إنكار كون القرآن معجزًا ببلاغته وفصاحته وتأويل
آيات القرآن على ما ينطبق على بدعتهم وغير ذلك من الضلال والفتن , وهو أضر
على المسلمين من كتاب (المسيح أم محمد) بل ليس في هذا الكتاب شبهة يلتفت
إليها مسلم مهما كان جاهلاً , وأما كتاب الدرر البهية فإنه فتنة للمسلمين لأنه مملوء
بالآيات القرآنية محرفة ومأوَّلة واسم مؤلفه وألقابه إسلامية وناشره مجاور في
الأزهر ويبيعه في الأزهر نفسه من غير نكير. اللهم إنه وجد عالم واحد غيور
انتهر هذا المجاور وهدده بالطرد من الأزهر , وأرسل الكتاب إلى فضيلة شيخ
الجامع واستلفته إلى ما فيه ولا ندري هل ينكر ذلك كما أنكر على شيخ الجامع
الدسوقي طلب تقرير امتحان الطلبة (كما ترى في النبذة التالية) أم ماذا يكون شأن
الدعوة إلى غير دين الإسلام فوق رأسه في نفس الجامع؟ وهذه الدعوة مبثوثة في
الأزهر منذ تولي مشيخته هذا الأستاذ الحالي أو قبلها بقليل وقد أشرنا إليها في مقالة
(الدعوة حياة الأديان) وانتظرنا أن تنبه تلك الإشارة فضيلة شيخ الجامع فيتلافى
الأمر بالحكمة , وكأنه ذهل عنها أو لم يقرأ المقالة , وحيث قد تنبه للأمر الأستاذ
البصير الذي أشرنا إليه آنفًا ونبه فضيلة شيخ الجامع فإننا نرجو أن يتلافى الأمر
قريبًا وتصطلم هذه الفتنة من الأزهر الشريف.
ثم إن لي كلمة أخرى في هذا الموضوع مع أصحاب المطابع الإسلامية وهي
كيف طبعت كتاب (الدرر البهية) مع أن العهد بالمسلمين أن لا يتجروا بما لا
يبيحه دينهم , فقلما تجد في مصر حانة لمسلم مع أن أكثر أهلها يشربون الخمر
وقلما نرى جريدة إسلامية تنشر إعلانًا عن الخمر أيضًا.
أما نحن فإننا نتتبع آثار أهل هذا الدين الجديد ووعدنا بعض أصدقائنا بأن
يرسل إلينا الكتابين اللذين هما أصل دينهم وهما (البيان) و (الكتاب الأقدس)
ومتى جاءا وقرأناهما ننشر فصولاً متتابعة في تاريخ الباطنية وفرقهم نختمها بهذه
الفرقة التي هي خلاصتهم , ومن تعاليمهم أخذت دينها الجديد , ونسأل الله التوفيق
لخدمة دينه بمنه وكرمه آمين.
***
تقاليد مشيخة الأزهر
تحكم العادات والتقاليد على صنف العلماء كما تحكم على سائر الأصناف ولكن
حكمها على العلماء يتعدى ضرره إلى الأمة كلها لما يكون له من الأثر في تأخر
العلم والتهذيب اللذين هما حياة الأمة.
وقد صار من المعلوم لجميع النبهاء في القطر المصري وغيره أن طريقة
التعليم في الأزهر معوجة ملتوية مشتبهة الأعلام طامسة الصوى والمنار , وأنها
لطولها وكثرة حزونها لا تكاد تؤدي إلى الغاية حتى أن السنة تمضي ولا ينجح من
ألوف الطلاب في الأزهر عدد يتجاوز مرتبة الآحاد. ولا خلاف بين العقلاء
والفضلاء في وجوب إصلاح هذه الطريقة التي لا وجه للمتمسكين بها إلا أن آباءهم
الأقربين ومشايخهم المتأخرين كانوا عليها , ومن المصرين على وجوب البقاء عليها
صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر لهذا العهد فهو لا يلتفت إلى كثرة شكوى
الشيوخ والعلماء الآخرين منها وطلبهم الإصلاح ولو تدريجًا , وفي هذا وقائع
وحوادث كثيرة آخرها ما قرأناه اليوم في المؤيد الأغر من طلب شيخ الجامع
الدسوقي من مشيخة الأزهر إصلاحًا في فرع من الفروع وهاك خلاصته.
كتب شيخ الجامع الدسوقي إلى مشيخة الأزهر الكبرى ما ملخصه:
إن طائفةً من طلبة الجامع الدسوقي لا يحضرون الدروس إلا في أيام المولد
لأجل أن يقاسموا الطلاب ما يأخذونه من النذور التي جرت العادة بتوزيعها عليهم.
وهؤلاء الدخلاء منهم من يحضر كتب الدرجة الثانية بل وكتب الدرجة الثالثة لينالهم
نصيبها وهم ليسوا بأهل لما قبلها. وبالجملة إن النذور على هذا تعطى لمن لم
يستحقها ويمنعها مستحقها أو ينقص نصيبه منها. ثم قال: ولو بقي الحال على ما
هو عليه الآن لضاعت الثمرة من العمل ولا يكون للجامع مستقبل حسن. ولهذا
تطلب مشيخة الجامع الدسوقي من مشيخة الجامع الأزهر الشريفة النظر في وضع
قاعدة لذلك يكون أساسها امتحان من يريد الانتقال من درجة إلى درجة أرقى منها
وثبوت استحقاقه نصيب الدرجة المرغوب النقل إليها) اهـ.
فأجاب صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر عن هذا في ١٠ ربيع الثاني سنة
١٣١٨ نمرة ١٩ بما نصه:
(علمنا ما ذكر نحوه بإفادة حضرتكم نمرة ٢٤ الواردة في شأن طلبة العلم
بدسوق الذين هم من أهلها , وطلبتم النظر في شأنهم , ووضع قاعدة تكون أساسًا
لامتحان كل من يريد الانتقال من درجة إلى ما فوقها وامتحان أرباب الدرجة الثانية
وهلم جرًّا.
والذي نفيدكم به أن طلبكم هذا لم نسمع له نظيرًا في الجامع الأزهر الذي هو
أشهر مدرسة دينية في القطر والذي أنتم تابعون له ولا في مدرسة من المدارس
الإسلامية.
فعجبنا من هذا الطلب وكنا نود أن لا يكتب من حضرتكم للمشيخة شيء من
ذلك فيه ولم نعلم ما الباعث لحضرتكم على هذا الأمر مع اشتهار أنه تكلم في هذا
المعنى , ثم ما كان بعد الاختبار ما كان عليه الأزهريون في العصور الخالية فإنه
الطريقة المثلى ورفض ذلك بإجماع الأزهريين وأظن أن ذلك بلغكم فكيف تطلبونه
بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة
بغير ما يفتح عليه في غيرها , ولذا لزم تحريره لحضرتكم للمعلومية وعدم إجراء
مثل ذلك) اهـ.
هذا هو جواب رئيس العلماء وكبيرهم , ولا بد أن يكون مدهشة لكل قارىء في
لفظه ومعناه. وعبارته وفحواه. وللكلام مجال واسع فيه من وجوه كثيرة أهمها
أمران:
أحدهما: ادعاء إجماع أهل الأزهر على أن طريقتهم في التعليم هي الطريقة
المثلى وأقرب الطرق للتحصيل , وهذا الإجماع لا وجود له بل لم يجمع أهل
الأزهر على شيء يمكن الخلاف فيه فقد كان يوكل إليهم انتخاب شيخ الجامع , ولم
يتفقوا مرة على انتخاب شيخ. ووقف أحد الاغنياء وقفًا كبيرًا , واشترط أن يكون
الناظر عليه أعلم أهل الأزهر وأصلحهم فعهد إليهم بانتخاب هذا الناظر فلم ينتخبوا
أحداً لأن كل واحد يرى نفسه أحق بذلك وبالانتفاع بالراتب العظيم المخصص
للناظر , وإننا نعرف أن من العلماء من يمقت هذه الطريقة ويعرف عقمها. وكيف
ينكر ذلك من له حس وعقل. وإننا نسمع من اختبار الطلاب الذين قضوا السنين
الطوال في الأزهر من الجهالة ما لا يسمع نظيره في المدارس الابتدائية - طلب من
واحد منهم قضى ١٥ سنة فيه إعراب (والاسم منه معرب ومبني) فقال: الاسم
مبتدأ ومنه مبتدأ ثان! ! ! ومثل هذا كثير لا محل لشرحه الآن. على أن إجماعهم-
لو فرض حصوله - ليس بالإجماع الديني الذي يحتج به شرعًا كما يتوهم
الجهلاء لأن الإجماع الشرعي هو اتفاق المجتهدين من الأمة وهم قد جعلوا للاجتهاد
بابًا وأغلقوه ومنعوا الناس منه فلا يدعونه لأنفسهم , ومنهم من يزعم استحالة وجوده
في هذا العصر. وإنما يعرف حسن التعليم وقبحه من ثمرته ونتيجته وهي في
الأزهر كما نعلم.
(الثانية) : قوله في تخطئة طلب امتحان من يراد نقله من درجة إلى ما
فوقها في التعليم: (فكيف تطلبونه بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح
عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة بغير ما يفتح عليه في غيرها) يعني أن
الجاهل إذا ابتدأ طلب العلم بحضور حاشية الصبان وحاشية التجريد وجمع الجوامع
فربما يفتح عليه بما لم يفتح عليه بمثله لو حضر الكتب الصغيرة الابتدائية وإلا لم
يصح أن يكون حجة له. ويشبه هذا قول الشيخ راضي البحراوي والشيخ ثابت بن
منصور إنه لا حاجة في الحرب والجهاد إلى معرفة البلاد ولا غيرها من الفنون
العسكرية (لأن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء) كلمة حق أريد بها باطل فالله هو
الناصر والفاتح ولكنه جعل لكل شيء سببًا وسنة تعرف بالاختبار {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) .