للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العلم والجهل
مثال للعلم والجهل. سعي بعض عربان مصر بافتتاح المدارس. الانتقاد
عليهم ورده. تعليم الأزهر. ما يحتاجه الأزهر من الإصلاح. ما تحتاجه
المدارس الأميرية. ما يطلب من المدارس الأهلية. مقاصد مؤسسي المدارس في
الغالب. أكل أموال الفلاحين بالربا الفاحش بسبب الجهل. الجمود على التقاليد
والخرافات بسببه. روح استقلال الفكر في التعليم الجديد.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ٩) .
العلم خير كله والجهل شر كله فلا ينبغي للبيب أن يقول: إن الجهل الكثير
خير من العلم القليل الذي لا يفي بحاجة البلاد لأن هذا تفضيل للشر الكثير على
الخير القليل. العلم سعادة والجهل شقاوة ولا يختار ناصح لقومه الشقاوة على
السعادة إذا رأى أن ما تطلبه من وسائل الإسعاد ناقصًا غير تام أو رآها تختار غير
الأولى منها على ما هو أولى. العلم نور لامع وضياء ساطع والجهل ظلمات
بعضها فوق بعض , ولا يقولن بصير: إن الظلمة الحالكة أفضل من النور الضئيل ,
وإن من فاتته القناديل الكهربائية فليكسر المصابيح الزيتية. كما لا وجه له أن
يقول: إن النور مذموم وضارٌّ لأن الأشرار يتمتعون به بما يتقلبون في السيئات
ويسيرون في خطط الخطيئات , ولولاه لما تمَّ لهم ذلك التمتع فإن الذي يذم النور
بمثل هذا ويذم العلم بأنه يكون شاغلاً للآخذين به عن الأعمال والمكاسب ونحو ذلك
هو كمن يذم العينين لأن من الناس من يسرحهما تسريحًا مذمومًا محرمًا , ويذم
الأذنين لأنه يسمع بهما ألفاظ الهجر والفحش , ويذم العقل لأن من الناس من
يستنبط به المكايد والحيل لهضم حقوق إخوانه.
قام بعض أهل الغيرة من عربان مصر يسعى في إنشاء مدرسة أو مدارس
لتعليم أبناء قومه , فاستنكر هذا الأمر بعض الناس وانتقدوه وذهبوا إلى أنه يفسد
على العربان معيشتهم ويبطل نظامهم , ويكون مجلبة الشقاء والتعاسة لهم حتى
اضطر المقترح للاعتذار ودفع الالتباس. وتبرئة النفس من إرادة الشر أمام الناس.
فيا لله ولهذا الإنسان ما أغرب أطواره. وأعجب أوطاره. وما أبعد فكره. وأفعل
سحره. وما أسحر بيانه وأغوى شيطانه. وما أقوى هواه. وأضعف هداه. يذم
العلم والتعليم. ويريك أنه يهديك إلى صراط مستقيم.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيءُ الزنابير
مدح وذمٌّ وذات الشيء واحدة ... إن البيان يُرِي الظلماء كالنور
العلم كالعقل والحواس لا تذم بحال. وإنما تبيَّن الطريقةُ المثلى للاستعمال.
ألا ترانا ننتقد دائمًا طريقة التعليم في الأزهر الشريف ولكننا لا نقول: إن
عدم الأزهر أو عدم العلم والتعليم فيه خير من وجوده على ما نعلم في ذلك من
المضرات وقد انتقدنا وغيرنا من الكتاب على المدارس الأميرية ونظارة المعارف
العمومية كما انتقدنا وننتقد المدارس الأهلية وتعليمها وتربيتها (إن كان فيها تربية)
ولا نعني بشيء من ذلك أن الجهل خير من العلم أو أن إهمال التعليم خير من التعليم
الناقص إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا فمن يستطيع الكلام قولاً أو كتابة يجب
عليه أن يتكلم بما يعتقده إصلاحًا وإلا كان خائنًا لأمته وملته وبلاده وعسى أن
يفعل من يستطيع الفعل والله الموفق لمن يشاء من عباده.
نطلب من مشيخة الأزهر إصلاح طريقة التعليم ليقرب التحصيل على
الطلاب فيخرج لنا في كل سنة من المجاورين المعدودين بالألوف مئات أو عشرات
من المرشدين والوعاظ والمعلمين للدين والآداب ونطلب أيضًا ملاحظة التربية مع
التعليم فإن علماء الاجتماع عامة وعلماء البيدلجوجيا (التربية والتعليم) خاصة
مجمعون على أن التربية هي أقوى الركنين وأنفع العنصرين وأن السعادة قد تنال
بتربية من غير تعليم - غير ما تستلزمه هي - ولكن التعليم وحده لا يغني غناءَها
ولا يسد مسدها , ولا توجد في الدنيا مدرسة لملة من الملل لا يوجد فيها للتربية اسم
ولا مسمى كمدرسة الأزهر , وعذر مشيخة الأزهر في هذا أن إلزام طلاب العلم
بالنظافة والأدب والنظام في المعيشة والسيطرة عليهم في سيرتهم الشخصية أمر لم
يجر عليه الشيوخ السابقون وتحكم في حريتهم بغير مسوغ شرعي والجواب عنه أنه
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين بنص الكتاب العزيز وأن المعلم
قيم شرعي كالوالدين فيطلب منه من التربية ما يطلب من الوالدين , وإننا نرى
كثيرين من الشيوخ المدرسين يشتمون المجاورين ويهينونهم لأمور ليست بذات بال
ويتسنى لهم إرشادهم للآداب والفضائل باللين والهداية من غير تحكم يسيء. على
أن هذه الحرية المطلقة هي التي جعلت الأزهر عبرةً للمعتبرين واستعبارًا
للمستعبرين (كما استعبر تلك الكونتة الروسية التي جاءت من بلاد روسيا إلى
مصر لتشاهد عز الإسلام وأعظم مدارسه العالية - الأزهر - فلما دخلت هذه
المدرسة الطائرة الصيت لم تملك عبرتها أن تسيل على خدودها حتى خرجت آسفة
حزينة) .
ونطلب أمرًا ثالثًا مهمًّا وهو أن يكون لطلاب العلم في الأزهر إلمام بمبادئ
العلوم التي عليها مدار المدنية الحاضرة والسعادة الدنيوية , فإن الإسلام ما جاء إلا
ليهب الناس السعادتين والفوز بالحسنيين وذلك كعلم الاجتماع وعلم حفظ الصحة
ومبادئ التاريخ الطبيعي وغير ذلك من الفنون المتداولة بين الناس في هذا العصر
وبذلك يستعدون للدعوة إلى الدين وحفظه ومخاطبة الناس على قدر عقولهم كما
يجب على ورثة الأنبياء.
ونطلب من نظارة المعارف أن تقرن في المدارس التربية الدينية بالتربية
الجسدية والعقلية وأن تزيد عنايتها باللغة العربية لكيلا تتلاشى أمام اللغة الإنكليزية
إذا دامت هذه على تقدمها وتلك على تأخرها.
ونطلب من المدارس الأهلية ما نطلبه من المدارس الأميرية وزيادة مهمة إذا
وجدت كانت هذه المدارس قرة عيون الأمة ومنتهى رجاء البلاد , وهي إشراب
قلوب التلامذة أن ثمرة التعليم والتربية ليست محصورة في وظائف الحكومة وإنما
ثمرتها سعادة الحياة والاستعداد لإتقان أي عمل يتصدى له المتعلم من زراعة
وصناعة وتجارة وإمارة , إذ المطلوب لإسعاد الأمة أن يعم التعليم والتربية جميع
أفرادها وتبقى مع ذلك كل طبقة من الطبقات على عملها وكسبها.
نرحب بالمدارس الأهلية ونثني على مؤسسيها ونلهج بشكرهم وحمدهم
وسخائهم ورفدهم , وإن كنا نعلم أن منهم من لا يقصد بإنشاء المدرسة إلا التجارة
والكسب , ومنهم من يطلب الأحدوثة وحسن الذكر , ولا يهمه بعد ذلك استفاد
المتعلمون ما هي الغاية الحقيقية من التربية والتعليم أم لم يستفيدوا لعلمنا أن الرياء
قنطرة الإخلاص وأن المتعلم أقرب إلى الإصلاح من الجاهل المطلق وإن كان هذا
محل نظر.
أرأيتك هذا الفَلاَّح الذي يلعب به المرابون لعب الصبيان بالكرة فيأخذون منه
الربا أضعافًا مضاعفة , ثم يشترون قطنه بثمن بخس لو كان متعلمًا هذا التعلم
الناقص هل كان يتسنى لهم غشه إلى هذا الحد؟ ؟
أرأيتك هذا العامي الذي أفسدت عقله وروحه ونفسه التقاليد الباطلة والخرافات
القاتلة ولا يفهم لك دليلاً ولا برهانًا. ولا يراجع في تقليده عقلاً ولا وجدانًا؟ لو
تعلم هذا التعلم الناقص ألا يستعد بذلك عقله لفهم الدلائل. والتمييز بين الحق
والباطل. إذا ألقي إليه ذلك ممن يفهمه , وتصدى لتعليمه إياه من يعلمه؟
بلى إنه يستعد بهذا التعليم تعليم المدارس لكل هذا ولما هو أعلى منه، وذلك
أن فيها روح استقلال الفكر ولكن هذا الروح مفقود من الأزهر , وكل ما فيه من
العلم تقليدٌ أعمى لبعض المصنفين من المتأخرين لحسبان أن من يفند قول واحد
منهم يخرج من الدين أو العلم , ولكننا نرى هذا الروح قد رضي عن الأزهر
وطفق يسري فيه بالتدريج، ونسأل الله التوفيق للكمال.