للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


الحكومة الاستبدادية
من مقالات حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني
تغمده الله برحمته

إن طول مكث الشرقيين تحت نير استبداد المستبدين الذين كان اختلاف
أهوائهم الناشئ عن تضاد طبائعهم وسوء تربيتهم مع عدم وجود رادع يردعهم
ومانع يمنعهم وقوة خارجية تصادمهم في سيرهم سببًا أوجب التطاول على رعاياهم
وسلب حقوقهم بل اقتضى التصرف في غرائزهم وسجاياهم والتغيير في فطرتهم
الإنسانية حتى كادوا أن لا يميزوا بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع وأوشكوا أن
لا يعرفوا أنفسهم وما انطوت عليه من القوى المقدسة والقدرة الكاملة والسلطة
المطلقة على عالم الطبيعة والعقل الفعَّال الذي تخضع لديه البسائط والمركبات.
ويطيع أمره النافذ جميع المواليد من الحيوان والنبات. وإن امتداد زمن توغلهم في
الخرافات التي تزيل البصيرة وتستوجب المحو التام والذهول المستغرق بل تستدعي
التنزل إلى الرتبة الحيوانية ومداومتهم من أحقاب متتالية على معارضة العلوم
الحقيقية التي تكشف عن حقيقة الإنسان وتعلمه بواجباته وما يلزمه في معاشه ,
وتبين له الأسباب الموجبة للخلل في الهيئة الاجتماعية وتمكنه من دفعها والسعي في
إطفاء نورها بما ورثوه عن آبائهم من سفه القول وسخف الرأي والجدّ في
اضمحلال كتبها وضياع آثارها واستبدالها بما أوقعهم في ظلمات لا يهتدون إلى
الخروج منها أبدًا [١] .
كل هذه الأسباب تمنع القلم عن أن يجري على قرطاس بيد شرقي في البلاد
الشرقية بذكر الحكومة الجمهورية وبيان حقيقتها ومزاياها وسعادة ذويها الفائزين بها
وأن المسوسين بها أعلى شأنًا وأرفع مكانة من سائر أفراد الإنسان بل هم الذين يليق
بهم أن يدخلوا تحت هذا الاسم دون من عداهم , فإن الإنسان الحقيقي هو الذي لا
يحكم عليه إلا القانون الحق المؤسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه يحدد به
حركاته وسكناته ومعاملاته مع غيره على وجه يصعد به إلى أوج السعادة الحقيقية.
وتصدُّه عن أن يرقم على صفحات الأوراق ما يكشف عن ماهية الحكومة المقيدة
ويوضح عن فوائدها وثمراتها , ويبين أن المحكومين بها قد هزتهم الفطرة الإنسانية
فنبهتهم للخروج من حضيض البهيمية والترقي إلى أوّل درجات الكمال وإلقاء أوزار
ما تكلفهم به الحكومة المطلقة وتطلب مشاركة أولي أمرهم في آرائهم وكبح شره
النهمين منهم الطالبين للاستئثار بالسعادة دون غيرهم. ولهذا أضربنا صفحًا عن
ذكرها , وأردنا أن نذكر في مقالنا هذا الحكومة الاستبدادية بأقسامها فنقول:
إن الحكومة الاستبدادية باعتبار عناصرها الذاتية. وأقانيمها الحقيقية التي هي
عبارة عن أمير أو سلطان ووزراء ومأموري إدارة وجباية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(القسم الأول) : منها الحكومة القاسية وهي التي تكون أركانها مع اتسامهم
بسمة الإمارة والوزارة والإدارة والجباية شبيهة بقطاع الطريق , فكما أن قاطع
الطريق يقطع طرق السابلة ويسلبهم أموالهم ومؤنهم وثيابهم التي تقيهم الحر والبرد
وسائر مواد حياتهم ويتركهم في البوادي والقفار حفاة عراة جياعًا تقطعت بهم حبال
الوسائل ولا يلاحظ أن فيهم الهرم والصغير والعاجز والضعيف الذين لا يستطيعون
التخلص من المهالك , ولا يقتدرون على النجاة ولا يبالي بموتهم وهلاكهم عن
آخرهم ولا تأخذه في ذلك الشفقة والرحمة. كذلك هؤلاء الأركان يغتصبون ضِيَاع
رعاياهم وعقاراتهم ويستولون على مساكنهم وبساتينهم وينتزعون بالضرب والحبس
والكيّ وغيرها من أنواع العذاب ما بأيديهم من ثمرات اكتسابهم ويدعونهم في
مخالب المصائب معرَّضين للأسقام والآلام وأهدافًا لسهام البلايا التي ترميهم بها
عواصف الرياح الزمهريرية والسمومية , ولا يخشون اضمحلالهم وإبادتهم بالكلية
ومحق حياتهم بالمرة [٢] بل يستبشرون بذلك كأنما هم أعداؤهم , ولا يشعرون أنهم
قواد السلطة وأساسها. ومن أفراد هذا القسم الحكومة الإنكليزية [٣] والتيمورية
وغيرهما من حكومات التتر [٤] . كما تشهد بذلك التواريخ.
(القسم الثاني) : الحكومة الظالمة وأولياء هذه الحكومة تماثل الأخساء
والمترفين الذين يستعبدون أناسًا خلقوا أحرارًا فكما أنهم يكلفون عبيدهم بأعمال شاقة
وأفعال متعبة ويجبرونهم على نقر الأحجار وخوض البحار وفلق الصخور وقلع
الجبال وطي المفاوز وجَوْبِ البلاد في صرّة الشتاء وهجيرة الصيف , ويؤلمون
أبدانهم بالسياط إذا لجأوا آنًا ما إلى الراحة التي تجذبهم الطبيعة إليها ويحجبونهم
بأشغالهم المستغرقة لأيام حياة هؤلاء المظلومين عن مزايا جواهر عقولهم المقدسة
حيث لا يجدون فرصة من دهرهم للنظر في الآفاق وفي أنفسهم كي يرتقوا من
الإحساس البهيمي إلى عرش الإدراك الإنساني ويشاركوا أبناء جنسهم في اللذائذ
الروحية ويجتنوا ثمار عقولهم ليوازروهم بنتائجها من الصنائع البديعة والمخترعات
الرفيعة فيسعدوا مع السعداء. ومع ذلك يحرسون حياتهم ويحرصون على استبقائها
استيفاءً للخدمة منهم بتقديم قوت من أردأ ما يقتات به لسد الرمق , وثياب خشنة رثة
لتحفظهم من أظفار العواصف وبراثن القواصف فلا يكون حالهم مع سادتهم إلا
كحال البهائم والأنعام الأهلية لا يعيشون إلا لغيرهم ولا يتحركون إلا برضاه بل
بمنزلة آلة غير شاعرة بأيدي مستعبديهم يستعملونهم كما يشاءون.
كذلك هؤلاء الولاة مع رعاياهم فإن الرعايا لا يزالون يتحملون المتاعب
والأوصاب، ويكدون أيام سنيهم ويسهرون لياليها مشتغلين بلا فتور بالغرس
والحرث , والحصد والدرس. والندف والحلج. والغزل والنسج. مهتمين بالحدادة
والنجارة , والملاحة والتجارة. ساعين في حفر الأنهر وإنباع المياه وإنشاء الجداول
والجسور متكبدين آلام التغرب في الحر المبيد , والبرد المميت. كي ينالوا (أي
الحكام) أرغد العيش بطيب المطعم والمشرب والملبس والمسكن , ويحوزوا الراحة
والرفاهة , والحظ والسعادة , وهؤلاء الظلمة لا يفترون عن السعي في سلب ما
بأيديهم جبرًا وغصب ثمار مكاسبهم وفوائد متاعبهم رغمًا , ولا يدعون لهم مما
اكتسبوه بكد يمينهم , وعرق جبينهم. سوى ما تقوم به حياتهم الدنيئة حتى تراهم
بعد اقتحام هذه الأخطار وتحمل تلك المصاعب. لا يقتاتون إلا بكسرات خبز رديئة
ناشفة يبلونها بدموعهم المنسكبة من جور ولاتهم الفاتكين , ولا يسترون أبدانهم إلا
بخرق رثَّة مرقَّشة بدمائهم السائلة من سياط حكامهم الجائرين , ولا يسكنون إلا في
الأكنَّة المنخفضة والأخصاص الخسيسة كأنهم أنعام حرمتهم الطبيعة من المزايا
الإنسانية , ولا يشاهدون إلا بوجوه مغبّرة مقشرة , وأبدان مقشفة معفّرة , وتدوم
عليهم هذه الحال الرديئة التي نشئوا عليها , والمعيشة الدنيئة التي اعتادوها. حتى
يقتنعوا بها ولا يتعلقوا سواها , بل يتنزلون بسوء تصرف هؤلاء الولاة عما منحوه
من فضيلة العقل إلى رتبة البهيمية , ولا يحسّون بمعيشة أكمل مما هم فيه ولا
يتألمون إلا بالآلام الجسمانية.
ومن أقسام هذه الحكومة غالب حكومات الشرقيين في الأزمان الغابرة
والأوقات الحاضرة، وكذلك أكثر حكومات الغربيين في الدهور الماضية ومنها
أيضا الحكومة الإنكليزية الآن في البلاد الهندية.
لها بقية
(المنار)
ظفرنا بهذه المقالة في صحيفة عاث فيها العثُّ (الأرضة) فذهب بكلمات
قليلة منها لم تخلّ بالمعنى وإن نقصت بعض الفائدة فمنها ما تركنا له بياضًا ليكتب
فيه الساقط من يظفر به من القراء , ومنها ما وضعنا له كلمة يدل عليها المعنى
ككلمة (صرة) قبل لفظ الشتاء.
((يتبع بمقال تالٍ))