للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


الحكومة الاستبدادية
تتمة مقالة السيد جمال الدين الأفغاني
تغمده الله برحمته

(القسم الثالث) الحكومة الرحيمة وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول منها الحكومة الجاهلة ودعائم هذه الحكومة تحاكي الأب الرحيم
الجاهل فكما أنه يحث أبناءه على اقتناء الأموال واكتساب الثروة واستحصال
السعادة والاقتصاد في المعيشة بدون أن يبين طرقها ويمهد لهم سبلها لعدم علمه بها.
ويدعوهم رأفة إلى المجاملة والموادعة ورفع الشقاق والنزاع من بينهم بغير أن يحدد
لهم الواجبات ويقدر الحدود اللازمة للإدارة المنزلية لقصور إدراكه عنها فكأنه
يدعوهم إلى أمر مجهول مطلق لا يهتدون إليه سبيلاً.
كذلك حال هؤلاء الدعائم الرحماء الجهلاء يطلبون من رعاياهم السعي في
المكاسب والصنائع والتمسك بالتجارة والفلاحة والتشبث بالعلوم والمعارف ويغرونهم
على مجاراة الجيران ومباراة أهل العرفان والتعلق بأسباب النجاح والفلاح بلا تشييد
المدارس المفيدة وتأسيس المكاتب النافعة وتسهيل طرق المعاملات وبث فنون
الزراعة جهلاً منهم ويريدون من أولئك الرعايا التباعد عن الشقاق والنفاق ,
والاحتراز عن الاعتداء والاغتصاب , والتجنب عن الفساد والعناد والحيف ,
والميل في الحقوق , والاحتراس عن كل ما يخل بالراحة العمومية بلا تقنين ناموس
عادل حافظ للحقوق معين للحدود فاصل للقضايا قاطع لما يطرأ من النوازل جامع
لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في اجتماعاته المدنية. ومن أفراد هذه الحكومة سلطنة
بعض السلاطين المجبولين على الشفقة المطبوعين على الرأفة الذين كانوا يبكون
على سوء أحوال رعيتهم مع جهلهم بما يصلح شأنها والسِّيَرُ بذلك ناطقة.
القسم الثاني منها الحكومة العالمة، وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول الحكومة الأفينة وأقانميها تضاهي الأب العالم المأفون , فكما أن
شفقة هذا الأب تسوقه إلى العناية بأحوال أبنائه وتقسره عليها , وأن علمه بأسباب
الترف والثروة وعلل المعيشة الهنيئة المرضية يقوده إلى الاهتمام بتأديبهم بأحسن
الآداب , وتعليمهم الفنون وتمرينهم على الحرف , ويجبره على أن يبين لهم قوانين
العشرة ويحدد لهم حقوقهم ولكن بعد ذلك يتركهم وشأنهم لضعف رأيه وقصر نظره
وجهله بأن ملازمة الشبان للآداب , واجتناءهم ثمار معارفهم التي اكتسبوها واجتهادهم
في المكاسب لا تكون إلا بقوة حافظة ما لم تحنكهم التجارب لما جبلوا عليه
من الميل إلى الشهوات والانعكاف على البطالة والتقاعد على الفضائل فيهوون في
هاوية التعاسة وتذهب مساعيه سدى.
كذلك هؤلاء الأقانيم يعمرون بيوت العلم ويشيدون دور المعارف , وينشئون
المعامل ويوسعون نطاق التجارة , ويواظبون على تشريع سياسة مدنية تثبيتًا
للحقوق واستتبابًا للراحة على مقتضى ما أحاطوا به من أحوال رعاياهم , ولكنهم
لعدم تدبرهم في العواقب وعدم تبصرهم بأن افتقار انتظام أحوال العباد وسير
أمورهم على نهج العدل , ونيلهم غاية بغيتهم من مساعيهم إلى العلة المبقية
كافتقارهم إلى العلة الموجدة لا يواظبون على أعمالهم هذه , ولا ينظرون إليها نظرة
ثانية بل ينبذونها ظهريًّا ويتركونها نسيًّا منسيًا فيتطرق إليها الخلل ويعتريها الفساد
ويسري إليها الانحلال؛ لما جبل عليه الإنسان من الحرص والشره والميل إلى
الجور والاعتداء المستلزمة لمخالفة القانون فيقع كل في العطب والنصب والشقاء
والعناء ويستولي عليهم الفقر والفاقة ويصيرون كأرض موظوبة [١] بتوالي تطاول
أيدي جائريهم وتعاقب اعتساف معتديهم ويشبه أن تكون حكومة المأمون وبعض
سلاجقة إيران من أفراد هذا القسم.
القسم الثاني: الحكومة المتنطسة وأساطينها الحكماء تضارع الأب المتدبر
المتبصر الذي لا يبرح ساعيًا في إعداد الأسباب الموجبة لسعادة أبنائه زمن حياتهم
وتهيئة معداتها القريبة والبعيدة , ولا يتجافى آنًا ما عن مواظبة دقائق حركاتهم
وسكناتهم وتفقد شئونهم واستكناه أحوالهم , ولا يتقاعد لمحة عن تأييدهم في سيرهم
بآرائه السديدة وأفكاره الصائبة خوفًا من التواني والكسل والإهمال والفشل , وخشية
من عروض الموانع التي تصدهم عن البلوغ للغاية.
فنجد هؤلاء الحكماء الأساطين يعلمون أن قوام المملكة وحياة الرعايا بالزراعة
والصناعة والتجارة , ويعرفون أن كمال هذه الأمور وإتقانها لا يكونان إلا بأمرين
أحدهما - وهو في الواقع علتهما الأولى - العلوم الحقيقية النافعة والفنون المفيدة
التي لا يمكن حصولها والفوز بها إلا بمدارس منتظمة ومدرسين ماهرين ومتخلقين
بأخلاق فاضلة شفوقين على المتعلمين شفقتهم على أبنائهم. وثانيهما: إعداد آلات
الزراعة وأدوات الصناعة وتسهيل طرق التجارة البرية والبحرية. ويفقهون أن
حفظ أساس المدنية وصون نظام المعاملات وفصل المنازعات وكف أيدي المتعدين
ومنع المدلسين وكبح الأشرار وردع الفجار لا يكون إلا بالمحاكم الشرعية والسياسية
المؤسسة على دعائم العدل والإنصاف , وأنها لا تتحقق إلا بقانون حق لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة - حتى أرش الخدش - إلا محفوظًا بأمناء يقظين محروسًا بعدول
نشطين محفوظًا بعلماء فقهين معززًا بقضاة مقسطين مؤيدًا بحكام أعفاء وأعوان
بررة. ويدركون ببصيرتهم الوقَّادة مصالح العباد. ومناهج تعمير البلاد. ووسائل
درء المفاسد الداخلية. وطرق منع النوازل الخارجية. وأن القيام بذلك لا يكون إلا
بضرب ضرائب عادلة عليهم يجمعها جباة عدول تصرف في منافعهم العامة لدى
الضرورة بلا حيف وميل , وانتخاب طائفة من أبطالهم الموصوفين بالصداقة وعزة
النفس وعلو الهمة لحفظ الأمنية الداخلية ودفع الأعداء الخارجية. ويشعرون بأن
استكمال سعادة المملكة وصيانة استقلالها لا يكونان إلا بارتباطاتها السياسية وعلائقها
التجارية مع الممالك الأخرى , وأنها لا تتم إلا برجال عارفين دهاة متبصرين
محبين لأوطانهم (لا كحسن أفندي فهمي شيخ الإسلام الأسبق في الأستانة الذي كان
يقول لعدو وطنه الجنرال أغناتيف سفير الروسية فيها: إنك عيني اليمنى، وإن
حيدر ابني عيني اليسرى كما ذكره حضرة مدحت أفندي في كتابه المسمى (بأس
الانقلاب) متدربين محنكين بالسياسة عالمين بالحوادث قبل ظهورها , محيطين
بطرق التجارة فيقومون بواجبات ما اقتضته حكمتهم وما أحاطوا به علمًا , ولا
يتهاونون آنًا ما عن أداء حقوق رعاياهم , ولا يفتدون راحة أنفسهم بسعادة أولئك
الضعفاء. وزد على ذلك أنهم يدرون أن غالب أفراد الإنسان طبع على الحرص ,
وفطر على الشر , وجبل على الشهوة , وخلق متهاونًا بواجباته متوانيًا على إصلاح
شئونه , ونشأ على المكر والحيل , وغرز فيه حبُّ الاعتداء على حقوق الغير ,
وعدم الاكتفاء بما ملكته يداه , وغرس فيه بغضُ الشرائع والقوانين حينما يراها سدًّا
يمنعه من سلوك سبيل الغدر , وحاجزًا يردعه عن مقتضيات الشره , وغُلاًّ يكف
يديه عن التطاول. وإنهم يفهمون أن كل ما يقع في العالم الإنساني من المرض
والصحة والفقر والغنى والنصب والراحة. بل كل ما يقتضي الشقاء والسعادة
ويوجب الصلاح والفساد لا بد وأن يكون لإرادة الإنسان وحركاته الاختيارية فيه
دخل تام. ويدركون أن الإنسان ما دام على هذه السجية والغريزة فهو كمريض
تنازعته أمراض خطرة مختلفة لا ينجو منها إلا بتمريض طبيب ماهر يعرف العلل
والعلاج , ويتفقده آناء الليل وأطراف النهار فيهتمون حكمة وشفقة بتتبع أحوال
الرعايا مثل ذلك الطبيب الماهر , ولا يبرحون عن موازنة أعمالهم وأفعالهم
وحركاتهم , ولا ينفكون عن مقايسة آرائهم وأخلاقهم , ولا يفترون عن تعديل
ثروتهم وغنائهم , وتقويم علومهم ومعارفهم وتجارتهم وزراعتهم وإحصاء عددهم
وتعداد أحيائهم وأمواتهم , ولا يتوانون عن مقابلة الصادر والوارد في ممالكهم ,
والمعادلة بين قوة حكومتهم واقتدارها واقتدار الغير وقوته لكي يقتدروا على تدارك
مصالح البلاد قبل تمكن الفساد , ويقدروا على جبر الكسر وسد الثغر ورفو الخرق ,
وإزالة جراثيم الرزايا والمصائب , وإبادة أسباب الخلل والمصاعب , وإذا لم يمكنهم
القيام باستقصاء دقائق التعديل والتقويم وجزئيات الموازنة والمقايسة مباشرة انتخبوا
رجالاً يقظين عارفين بأحوال الدول وقواها متبصرين بشئون الممالك وأسباب
سعادتها وشقائها عالمين بفنون التجارة والزراعة والصناعة ولوازمها مهندسين
محاسبين لأداء هذه المصالح وتسجيلها في السجلات بغاية الدقة والإتقان , وعرض
كلياتها على هؤلاء الولاة الحكماء مع بيان موارد النقص والخلل وإيضاح أسبابها.
وغير خاف أن تسجيل المعادلات وحفظ الموازنات للدول ألزم من تقييد التاجر
معاملاته في دفاتره اليومية , فإنه لا يلزم من إهماله في التقييد والتثبيت إلا أن
يضيع رأس ماله على جهل منه ويصبح مفلسًا , وهذا ضرر خاص به , وأما إهمال
الدول في حفظ المعاملات وتسجيل الموازنات فيوجب خراب البلاد وهلاك العباد ,
ومن أجل هذا تجد للدول الغربية عناية تامة بهذا الشأن المسمى عندهم بالإستاتستيك.
فهاك يا أيها الإنسان الشرقيُّ صاحب الأمر والنهي حكومة رحيمة حكيمة ,
وعليك بها والقيام بشأنها وحفظ واجباتها , وإلا فبحياتك التي أفديتها براحة العالم أن
تعفونا عن تحمل ثقل تشدقك بالرحمة والعدالة والحكمة والفطنة. أتريد أن تظلمنا
ونكافئك بالشكر؟ وتغصب حقوقنا ونجازيك بالثناء؟ أو تظن أنك تقدر أن تغرَّ كل
العالم وتعمي بصائرهم؟ وأن تنزل باطلك عندهم منزلة الحق؟ وأن تجلس جورك
مجلس العدل؟ وأن تقيم سيئاتك مقام الحسنات؟ وأن تقعد رذائلك مقعد الفضائل؟
ولعلك اغتررت بتمجيد وتعظيم المبصبصين وتبجيل المتزلفين أمامك.
ولو كنت تعلم مقامك في النفوس. ومنزلتك لدى أرباب البصائر والعقول
لودعت هذه الدنيا الخئون التي ألهتك وفارقت حياتك العزيزة التي طالما افتديتها
بالمروءة والإنسانية.
وأما أنتم يا أبناء الشرق فلا أخاطبنكم ولا أذكرنكم بواجباتكم فإنكم قد ألفتم
الذل والمسكنة والمعيشة الدنيئة , واستبدلتم القوة بالتأسف والتلهف صرتم كالعجائز
لا تقدرون على الدرء والإقدام والجذب والدفع والمنع والرفع فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
اهـ نقلاً عن العدد ٣٣ من جريدة مصر التي صدرت في الإسكندرية في ٢٢
صفر ١٢٩٦.