للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نموذج من كتاب أسرار البلاغة

قلنا: إن هذا الكتاب يعطي صاحبه البلاغة علمًا وعملاً , وإننا نذكر مثالاً
لتأييد قولنا جزءًا من الفصل الذي وضعه الإمام عبد القاهر في مواقع التمثيل وتأثيره
في النفوس لأن التمثيل أعظم أركان البلاغة، ولا نكاد نجد في كتب البيان التي
نتداولها شيئًا مما كتب هذا الإمام كأن مواقع التمثيل ومواضعه والبحث في تأثيره
في النفوس وهزّه للوجدان ليس من هذا العلم , وما هو إلا روح العلم الذي لولاه لم
يكن للناس من حاجة به. وقد توسعنا في أمثلة ضروب التمثيل في الهامش زيادة
على ما ذكره المصنف؛ لأن الأمثلة هي أمثل طرق التعليم , ولا نكاد نجد في
الكتب التي نتدارسها إلا مثل: (ما لي أراك تقدم رجلاً، وتؤخر أخرى) فلنعرض
عما أمات العلم من الكتب ولنرجع إلى كتب الأئمة الذين قرنوا العلم بالعمل وإمامهم
في فنون البلاغة الشيخ عبد القاهر قال رحمه الله تعالى:
فصل
في مواقع التمثيل وتأثيره
واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو
برزت هي باختصار في معرضه [١] ، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته
كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبَّ من نارها، وضاعف قواها
في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة
وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا.
فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف،
وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح،
وأقضى له بغُرّ المواهب والمنائح، وأَسْيَر على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه
القلوب وأجدر [٢] .
وإن كان ذمًّا كان مسُّهُ أوجع، وميسه ألذع، ووقعه أشد، وحدُّه أحدّ [٣] .
وإن حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر [٤] .
وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألدّ [٥] .
وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ،
ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [٦] .
وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه
والزجر، وأجدر بأن يجلّي الغيابة، ويبصّر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي
الغليل [٧] .
وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [٨] ،
وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تقل الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في
الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى نحو قول البحتري:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جدّ قريب [٩]
وفكر في حالك وحال المعنى معك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني
ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه
ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بُعد ما
بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبلهُ في
نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لى بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [١٠] .
وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكدّ نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم
منها شيئًا وتسكت. وبين أن تتلو الآية [١١] وتنشد قول الشاعر:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر،
بل في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) وتقطع الكلام. وبين أن تتبعه نحو
قول الحكيم: (أما البيت فحسن وأما الساكن فرديء) .
وقول ابن لنكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر
وقول ابن الرومي:
فغدا كالخلاف يورق للعيـ ... ـن ويأبى الإثمار كل الإباء
وقول الآخر:
فإن طُرَّة راقتك فانظر فربما ... أمَرَّ مذاق العود والعودُ أخضر
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره
ويبسم، وكيف تشتار الأرْي من مذاقته [١٢] ، كما ترى الحسن في شارته وأنشد قول
ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وتبين المعنى واعرف مقداره ثم أنشد البيت بعده:
وهَبْك كالشمس في حسن أَلَمْ تَرَنَا ... نفرُّ منها إذا مالت إلى الضرر
وانظر كيف يزيد شرفه عندك وهكذا فتأمل بيت أبي تمام [١٣] :
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرّف
قيمته على وضوح معناه، وحسن مزيته [١٤] ثم أتبعه إياه:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته،
وعطَّرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده،
واستكمل فضله في النفس ونُبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما فيه
من التمثيل والتصوير.
وكذلك فرق في بيت المتنبي:
ومن يك ذا فم مُرّ مريض ... يجد مُرًّا به الماء الزلالا
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع
يتصور المعنى بغير صورته ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. كنت تجد هذه
الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [١٥] وقمعه وردعه والتهجين له
والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت وينتهي إلى حيث انتهى [١٦] .
وإن أردت اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف فقابل بين أن تقول:
إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره. وتقتصر عليه , وبين أن
تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه)
ويروى: (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) . وكذا فوازن بين قولك
للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة فلا تغر نفسك) وتمسك.
وبين أن تقول في أثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب، وإنما تحصد ما تزرع)
وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه ونحوه. وبين أن
تقول: (لا تنثر الدرّ قدَّام الخنازير) . أو (لا تجعل الدر في أفواه الكلاب) وتنشد
نحو قول الشافعي رحمه الله: (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم) , وكذا بين أن تقول:
(الدنيا لا تدوم ولا تبقى) . وبين أن تقول: (هي ظل زائل , وعارية تسترد،
ووديعة تسترجع) وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من في الدنيا ضيف،
وما في يديه عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة) وتنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع
وقول الآخر:
إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار