للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القسم الأدبي
رواية حقيقية في واقعة عربية
ذكر بعض أهل الأدب والتاريخ قال: لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث
الكندي ما كان قال الحجاج: اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي في الأسرى أو في
القتلى , فطلبوه فوجوده في الأسرى فلما دخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال:
شهاب بن حرقة. قال: والله لأقتلنك. قال: لم يكن الأمير ليقتلني. قال: ولم
ويلك؟ قال: لأن فيّ خصالاً يرغب فيهنّ الأمير. قال: وما هنّ؟ قال: ضَرُوب
بالصفيحة. هزوم للكتيبة. أحمي الجار. وأذبُّ عن الذمار. وأجود في العسر
واليسر. غير بطيء عن النصر. قال الحجاج: ما أحسن هذه الخصال! !
فأخبرني بأشدّ شيء مر عليك. قال: نعم أصلح الله الأمير:
بينا أنا أسير ... ومركبي وثير [١]
في عصبة من قومي ... في ليلتي ويومي
يمضون كالأجادل [٢] ... في الحرب كالبواسل
أنا المطاع فيهم ... في كل ما يليهم
فسرت خمسًا عومًا ... وبعدُ خمسًا يومًا [٣]
حتى وردت أرضًا ... ما إن ترامُ عرضًا
من بلد البحرين ... عند طلوع العين
فجئتهم نهارًا ... ألتمس المغارا
حتى إذا كان السحر ... من بعد ما غاب القمر
إذا أنا بِعِير ... يقودها خفير
موقورة متاعًا ... مقبلة سراعًا
فصُلْتُ بالسنان ... مع سادة فتيان
فسقتها جميعًا ... أحثها سريعًا
أريد رمل عالج ... أمعج بالعناجج [٤]
أسير في الليالي ... خرقًا بعيدًا خالي [٥]
وقد لقينا تعبًا ... وبعد ذاك نصبًا
حتى إذا هبطنا ... من بعد ما علونا
عنّت لنا سدانه ... قد كان فيها عانه [٦]
فرمتها بقوسي ... في مهمهٍ كالترس
حتى إذا ما أمعنت ... في القفر ثم درمت [٧]
وردت قصرًا منهلاً ... في جوفه طام خلا [٨]
وعنده خُيَيْمة ... في جوفها نعيمة
غريرة كالشمس ... فاقت جميع الإنس
فعجت مهري عندها ... حتى وقفت معها
حيَّيْت ثم ردت ... بلطف وحيَّت
فقلت: يا لعُوبُ ... والطَّفلة العروب [٩]
هل عندكم قراء ... إذ نحن بالعراء [١٠]
قالت: نعم برحب ... في سعة وقرب
إربع هنا عتيدًا ... ولا تكن بعيدًا [١١]
حتى يجيك عامر ... مثل الهلال الزاهر
فعجت من قريب ... في باطن الكثيب
حتى رأيت عامرًا ... يحمل ليثًا خادرًا [١٢]
على عتيق سابح ... كمثل طرف اللامح
قال: وكان الحجاج متكئًا فاستوى جالسًا , وقال: دعني من السجع والرجز ,
وخذ في الحديث. قال: نعم أيها الأمير , ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة
وأوقد عليها نارًا , وشق عن بطن الأسد , وألقى مراقّه في النار [١٣] فجعلت أصلح
الله الأمير أسمع للحم الأسد تشديدًا. فقالت له نعيمة: قد جاءنا ضيف , وأنت في
الصيد. قال: فما فعل؟ قالت: هاهو ذاك بظهر الخيمة , فأومت إليّ فأتيتها فإذا
أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر فربط فرسي إلى جنب فرسه (مبالغة في
الحفاوة) ودعاني إلى طعامه , فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع , فأكلت أنا
ونعيمة منه بعضه , وأتى الغلام على آخره. ثم قام إلى زق فيه خمر فشرب
وسقاني فشربت , ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره , فبينما نحن كذلك سمعنا
وقع حوافر خيل أصحابي فقمت وركبت فرسي وتناولت رمحي وسرت معهم.
ثم أقبلت وقلت: يا غلام خل عن الجارية ولك ما سواها. فقال: ويحك
احفظ الممالحة. قلت: لا بد من الجارية , فالتفت إليها وقال لها: قفي. ثم قال: يا
فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس , فبرز إليه رجل من أصحابي , فقال له:
من أنت؟ فلست أقابل إلا كفؤا. فقال: أنا عاصم بن كلبة السعدي. فشد عليه
وأنشد يقول:
إنك يا عاصم بي لجاهل ... إذ رمت أمرًا أنت عنه ناكل
إني كميٌّ في الحروب بازل ... ليث إذا اصطك الليوث باسل
ضرَّاب هامات العدى منازل ... قتال أقران الوغي مقاتل
قال: ثم طعنه طعنة فقتله. ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس
لفارس. فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ قال: أنا صابر بن
حرقة السعدي فشدّ عليه وأنشد يقول:
إنك والإله لست صابرًا ... على سنان يجذب المقابرا [١٤]
ومنصل مثل الشهاب باترًا ... في كف قرن يمنع الحرائرا [١٥]
إني إذا ما رمت أن أقامرا ... يكون قرني في الحروب خاسرا [١٦]
ثم طعنه طعنة فقتله , ثم قال: هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس. فلما
رأيت ذلك هالني أمره وأشفقت على أصحابي , فقلت: احملوا عليه حملة رجل
واحد. فلما رأى ذلك أنشأ يقول:
الآن طاب الموت ثم طابا ... إذ تطلبون رخصةً كعابا
ولا نريد بعدها عتابا ...
فركبت نعيمة فرسها , وأخذت رمحها فما زال يجالدنا ونعيمة حتى قتل منا
عشرين فارسًا. فأشفقت على أصحابي , فقلت: يا غلام قد قبلنا العافية والسلامة ,
فقال: ما كان أحسن هذا لو كان أوّلا ونزلنا وسالمنا.
ثم قلت: يا عامر بحق الممالحة من أنت؟ قال: أنا عامر بن حرقة الطائي ,
وهذه ابنة عمي , ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ما مرَّ بنا إنسي غيركم. فقلت
من أين طعامكم؟ قال: حشرات الطير والوحش والسباع. قلت: من أين
شرابك؟ [١٧] قال: الخمر أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين. قلت: إن معي مائة من الإبل موقورة متاعًا فخذ منها حاجتك. قال: لا حاجة لي
فيها [١٨] ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه , فارتحلنا عنهم منصرفين.
قال الحجاج: الآن طاب قتلك يا عدوّ الله لغدرك بالفتى. قال: قد كان خروجي
على الأمير أصلحه الله أعظم من ذلك , فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني
بغيره. فأطلقه ووصله ورده إلى بلاده.
***
جريدة المؤيد
دخلت هذه الجريدة في السنة الثانية عشرة وهي ثابتة في منهاجها مغذة في
سيرها , وثقة الناس بها تزداد بزيادة فوائدها وظهور النفع من إرشادها حتى إن
أعاظم كتاب المسلمين ينفحونها بنفثات أقلامهم وسوانح أفكارهم , فهي الآن الخطيب
الأكبر لقراء العربية يبلغ صوتها إلى ما لا يبلغه صوت عربي. فنهنئ صديقنا
الأستاذ الفاضل الشيخ علي يوسف صاحبها ورئيس تحريرها بهذا التوفيق في خدمة
الأُمة الإسلامية والدولة العلية والبلاد المصرية ونرجو لجريدته زيادة الانتشار.