للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أأحسن الشعر أكذبه أم أصدقه

نموذج آخر من أسرار البلاغة
قال عبد القاهر بعد كلام: وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة أن يجعلوا
اجتماع الشيئين في وصف علة الحكم يريدونه وإن لم يكن في المعقول ومقتضيات
العقول , ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم
أو ينقض من قضية , وأن يأتي على ما صيره قاعدة وأساسًا بينة عقلية , بل تسليم
مقدمته التي اعتمدها بينة كتسليمنا أن عائب الشيب لم ينكر منه إلا لونه , وتناسينا
سائر المعاني التي لها كُرِهَ ومن أجلها عِيبَ. وكذلك قول البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم ... في الشعر يكفي عن صدقه كذبه
أراد: كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا
فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به،
ويلجئ إلى موجبه، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإياه عمد، إذ يبعد أن يريد
بالكذب إعطاء الممدوح حظًّا من الفضل والسؤدد ليس له، ويبلغه بالصفة حظًّا من
التعظيم يجاوز به من الإكثار محله؛ لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية،
والقوانين العقلية، وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما
وصف به، والكشف عن قدره وخسته، ورقته أو ضعته، ومعرفة محله ومرتبته،
وكذلك قول من قال: (خير الشعر أكذبه) فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من
حيث هو شعر فضلاً ونقصًا وانحطاطًا وارتفاعًا بل يَنْحَل الوضيع من الرفعة ما هو
منه عار، أو يصف الشريف بنقص وعارٍ، فكم جواد بخله الشعر , وبخيل سخَّاه ,
وشجاع وسمه بالجبن , وجبان ساوَى به الليث , وذي ضعة أوطأه قمة العيُّوق [١] ,
وغبي قضَى له بالفهم، وطائش ادعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر
نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه.
وأما من قال في معارضة هذا القول: (خير الشعر أصدقه) كما قال:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به
الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع القبح
والحسن في الانفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها
نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
والأول أولى لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر.
فمن قال: خيره أصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق
والتصحيح، واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحبَّ إليه، وآثر عنده
إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال:
أكذبه؛ ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتّسع ميدانها،
وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب
والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق
في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ,
وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصور ويعيد،
ويصادف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا ويكون كالمغترف
من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي.
وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتسع كيف شاء
يده وأيده، ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة وصورًا مشهورة،
ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تُحفظ أعدادها، ولا
يُرجى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تنمى ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد،
وكالحسناء العقيم، والشجرة الرائعة لا تمتع بجنًى كريم.
هذا ونحوه يمكن أن يتعلق به في نصرة التخييل وتفضيله , والعقل بعد على
تفضيل القبيل الأول وتقديمه، وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره،
والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: الباطل مخصوم
وإن قضي له , والحق مُفْلِجٌ وإن قضي عليه [٢] هذا ومن سلم أن المعاني المعرقة
في الصدق، المستخرجة من معدن الحق، في حكم الجامد الذي لا ينمى،
والمحصور الذي لا يزيد، وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول
أبي فراس:
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا
ألست تراه عقليًّا عريقًا في نسبه، معترفا بقوة سببه , وهو على ذلك من
فوائد أبي فراس التي هو أبو عذرها، والسابق إلى إثارة سرها [٣] .
واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل؛ لأن المستعير لا يقصد إلى
إثبات معنى اللفظة المستعارة , وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره
على خلاف خبره. وكيف يعرض الشك في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفن
وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى كقوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: ٤) ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرًا , وإنما
المراد إثبات شبهه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن)
ليس على إثبات المرآة من حيث الجسم الصقيل، لكن من حيث الشبه المعقول،
وهو كونها سببًا للعلم بما لولاها لم يعلم لأن ذلك أعلم طريقه الرؤية , ولا سبيل إلى
أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصقيلة , فقد جمع
بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من
القبيح كما تُرِي المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه. وكذا قوله
صلى الله عليه وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) معلوم أن ليس القصد إثبات معنى
ظاهر اللفظين , ولكن الشبه الحاصل من مجموعها وذلك حسن الظاهر مع خبث
الأصل.
وإذا كان هذا كذلك بان منه أيضًا أن لك مع لزوم الصدق والثبوت على
محض الحق الميدان الفسيح والمجال الواسع , وأن ليس الأمر على ما ظنه ناصر
الإغراق والتخييل الخارج على أن يكون الخبر على خلاف المخبر من أنه إنما
يتسع المقال ويفتن وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعب
فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى فادعى ما لا يصح دعواه، وأثبت ما ينفيه
العقل ويأباه.
وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر فيه أمرًا هو
غير ثابت أصلاً , ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها , ويقول قولاً يخدع فيه
نفسه ويريها ما لا ترى. أما الاستعارة فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف في أنك إذا
رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا , ويدعي دعوى لها
شبح في العقل. وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن
الحقيقة تكشف وجهًا في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق فتزداد استبانة
الغرض بهذا الفصل , وأزيدك حينئذ إن شاء الله كلامًا في الفرق بين ما يدخل في
حيز قولهم: خير الشعر أكذبه. وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في اتساع وتجوز
فاعرفه. وكيف دار الأمر فإنهم لم يقولوا: خير الشعر أكذبه وهم يريدون كلامًا
غفلاً ساذجًا يكذب فيه صاحبه ويفرط , نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة
ويقول للبائس المسكين: إنك أمير العراقين، ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها
وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة للصواب. وأعود إلى ما كنت فيه من
الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي اهـ النموذج المراد.