للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
بقية المكتوب (٢٥) من هيلانة إلى أراسم
من السهل كثيرًا على الأطفال أن يدركوا معنى الملك في حق أنفسهم , ولكن
من الصعب جدًّا إقناعهم بأن للغير ملكًا يجب احترامه.
يشهد لذلك ما سأقصه عليك وهو أن مما يزرع في إنكلترا الراوند , وهو نبات
بهي المنظر شديد النمو يعرف في مزارعه بعرض أوراقه وعلو سوقه يدخله أهل
هذه البلاد لندرة الفواكه عندهم في عمل أقراص ومربيات يغالون بها كثيرًا سواء
أخطأوا في هذه المغالاة أو أصابوا , فترى أطفال القرى بسبب بقاء أذواقهم على
حالها الفطرية كلفون بأكل هذا النبات حتى إنهم لا يحتاجون في تعاطيه إلى تسويته
بالنار ولا إلى إدخاله في الأقراص , بل إنهم يأكلون سوقه الغضة فجة ويجدون لها
طعمًا مزًّا. من أجل هذا حصل أن تلامذتي (لأني أعتبرهم كذلك) بينما كانوا
يتنزهون وحدهم في ضواحي بنزانس لمحو حقلاً من حقوله فحركهم إليه كما حرك
حمار الأسطورة [١] دعوة الفرصة لهم إلى اغتنامها , وعضوضة النبات وطراءته,
وبعض نزغات الشيطان فلم يكن إلا أن تخطوا ما يحيط بالحقل من الحواجز الواهية ,
ثم انقضوا بقوتهم على بعض أشجار منه رأوها أطرى من غيرها فأكلوا منها
كفايتهم , ولكن لم يلبث وجدانهم بعد هذا أن أخذ يناجيهم فيما ارتكبوا فقال (أميل)
وقد بدا خجله: أتحسبان أننا قد أحسنا فيما فعلنا؟ فاضطر رفيقاه إلى الاعتراف
بأنهم جميعًا قد أساءوا.
ثم استأنفوا الكلام فقال وليم قول القدريّ الرزين: لقد كان ما كان فلم يبق في
قدرتنا إصلاحه. فأجابته بلَّى وهي لكونها أكبر منهما سنًّا أعرف بطرق المعاملات
منهما: (بلى إن لنا سبيلاً للخروج عن تبعة هذا الخطأ لأنه يصح لنا في كل حال
أن ندفع ثمن ما أتلفناه) فكان لما قالته لرفيقَيْها لمعة ابتهاج أشرق بها ضميرهما لأنهما
عوّلا على إصلاح التلف وبذلك يئوبون إلى بيتهم هادئي البال.
ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا في حيرة عظيمة لأنه لم يكن مع وليم وبلَّى من
النقود فلس واحد. وأما (أميل) فإنه كان غنيًّا بوجود بنى (عشر سنتيمات) في
جيب صُدْرَته , ولم يتردد في إخراجه ليدفعه ثمنًا لما أكلوه , ولما لم يروا في
الحقل أحدًا يقوم مقام مالكه في قبض الثمن أدتهم سذاجتهم إلى أن وضعوا قطعة النقد
على ورقة عريضة من أوراق الراوند وانصرفوا.
علمت بتفصيل هذه الواقعة من بدايتها إلى نهايتها من الجناة أنفسهم لأني لما
كنت لا أعاجلهم بالعقاب على ما يقترفونه كانوا يحسبونني كأحد معلمي الاعتراف؛
فيقرون لي بما يقترفونه من الذنوب طيبة به أنفسهم , ولما خفت أن يكون ما تركه
الأطفال من الثمن غير كاف في تعويض ما أتلفوه تراضيت مع المالك على قيمته
ودفعتها له على أنها لم تكن كثيرة , وبذلك حسمت هذه المسألة بنفقات قليلة , وإنني
كنت أبذل كل ما يطلب مني في مقابلة ما أشرق في بصائر أولئك النهابين الصغار
من بريق العدل في الوقت المناسب له. ولو كان (أميل) هو الذي صدرت منه
فكرة رد قيمة ما سلب لكان سروري بذلك أعظم كما لا أخفي عنك وفرحي به أكبر ,
ولكنه له فضل بذل ما كان معه على قلته. كيف يكون تفهيم الأطفال أن كل ما
ينبت على وجه الأرض ليس مباحًا لجميع الناس؟
أرى أن من أحسن مدارس الأخلاق للصغار الذين هم في سن (أميل)
المدرسة الخلوية فإنه قد تعلم فيها من نظره إلى ما ينهمك فيه أهل القرى من
الأشغال الشاقة أكثر مما يتعلمه بجميع البراهين الممكنة؛ لأنه يرى في كل يوم أن
القمح لا ينبت إلا إذا بذرت الناس حبوبه , وأن أجود أرض لا تصلح للزراعة إلا
إذا قلبت وحرثت.
ثم إن الحيوانات أيضا تعلمه اختصاص كل منها بما يملك. أذكر من ذلك مثلاً
فأقول: إنه يوجد في ضواحي بنزانس على شاطئ جدول يجري بعض أميال ثم
ينصب في البحر لفيف من الأشجار يحوم على واحدة منها في غالب الأوقات طائر
يقل وجوده في هذه الناحية وهو المسمى عند الإنجليز بملك جوارح الطير وعند
الفرنساويين بالخطاف الصياد (لعله الذي يسمى بالعربية الزُّمَّج) . اسْتَلْفَت هذا الطائر
الجميل أنظار أولادنا في أول الأمر ببهاء لونه ولكني نبهتهم إلى أن شهرته بالمهارة
في كسب قوته ليست بأقل من شهرته بجمال سرباله ذلك لأن هذا المسكين يكد في
كسبه وينصب فإنه يجثم ساعات كاملة في مكانه أي وراء غصن من الأغصان يحجبه
عن الأعين - ولا يعترض بصره حيث يراقب كما تعلم بعينيه اليقظاوين اللتين لا
يفوتهما فائت مرور السمك في الماء , فإذا سنحت له واحدة منها؛ انقض عليها
انقضاض السهم واصطادها , ثم ارتفع بها معلقة في منقاره القويّ إلى محله , وبعد أن
يمزقها كل مُمَزق ويلتقمها يعود إلى ما كان فيه من الترقب الشاق لعلمه أن الحظوظ
نادرة , وأن شهوة الطعام حاكمة عليه. وقد شهد الأطفال ذات يوم قتالاً عجيبًا وقع
بينه وبين جارح آخر أراد أن يختلس ثمرة صيده , فلم يلبث (أميل) أن فهم أن هذا
الطائر الثاني هو السارق لأنه أراد أن يسلب خصمه ما كسبه بجده وسعيه.
من العواطف التي أريد أيضًا أن أغرسها في نفس ولدنا احترام ما يصيب
الناس من العاهات , وقد رأيت أن إلقاء المواعظ عليه في ذلك مما يضيع به الزمن
عبثًا , ولاحظت أيضًا أن كثيرًا من الآباء والأمهات يخطئون بتمثيلهم عيوب الخلقة
وضروب التشوه الفطري لأولادهم في صورة عقوبات إلهية. ومن الأمثال على
ذلك أن فتاة تسكن المنزل الذي أنا فيه شبت على هذه الأوهام الشنيعة فكانت تعتقد
اعتقادًا راسخًا في عجوز من جيراننا شوهاء قوساء أن الشيطان يسكن حدبتها.
فالذي أريد إقناع (أميل) به هو عكس ذلك بالمرة فإني أريد أن أفهمه من غير
إفراط في تنبيه عاطفة الشفقة فيه أن من سلبهم الله من عباده محاسن الخلقة قد
عوضهم منها مواهب لم تقسم لغيرهم , وقد علمت بأنه يوجد على مقربة من قرية
مرازيون غلام أكمه يعيش من ثمرة كد والديه اللذين هما من صلحاء الفلاحين ,
فرأيت فيه فرصة حسنة لتجربة الفكر الذي تصورته , وطلبت من تلامذتي الثلاثة
أن يقبلوه رفيقًا لهم فرضوا بذلك لأنه متى كان المقصود للأطفال التسلي والانشراح
لا يعتبر عددهم كثيرًا بالغًا ما بلغ , وقد يكون لرضائهم بصحبته سبب آخر , وهو
أن الإنسان لا يكره مطلقًا أن يكون له رفيق يظهر علو درجته عليه لعلة فيه ,
ككونه محرومًا من بصر يضيء له سبيله , وإن كان ذلك الرفيق في الحقيقة أشد
منه قوة وأكبر سنًّا , فإننا كثيرًا ما نشوب حُنُوَّنا بشيء من الكبر والصلف ,
والأطفال مثلنا في ذلك وإن لم يكونوا عالمين به. على أنه لا حاجة بي إلى استقصاء
أسباب أعمالهم.
يتسلى عرمة الأطفال هنا في فصل الربيع باصطياد طائر من الطيور الخاصة
بكرنواي وهو الغراب الأعصم [٢] ولكون هذا الطائر نفورًا في حالته الفطرية تراه
لا يسكن غالبًا إلا الأماكن المهجورة , ولعلمه بشدة رغبة الناس فيه لندرته يدعوه
إدراكه إلى أن يتخذ وكنه في وسط ما لا يكاد ينال من الصخور [٣] , ولكن الصغار
البحاثين المنقبين لا يفلت شيء من أيديهم , فبعضهم مدفوع في بحثه بما فيه من
حب الاستطلاع , وبعضهم يحركه إلى ذلك طمعه في الربح لأن هذا الغراب غالي
القيمة , ثم إن أكثر وجوده في ضواحي بنزانس بالشعاف الوعرة المنتشرة حول
خليج الجبل حيث يعتصم في صخور الصوان المتصدعة المنقلبة بسبب ما انتابها
في غابر الأزمان من الرجفات والزلازل , ويوجد بالقرب من هذا المكان المنعزل
الوعر قرية للصيادين تدعى (موس هول) ومعناه جحر الفأر، وإنما سميت كذلك
لتعلقها على الساحل كأنها جحر فأر في حائط.
أنا لا أستحسن بحال صيد هذا الطائر لأسباب مختلفة ولكنني ربما توهمت أن في
التعجيل بإظهار مذهبي في ذلك لتلامذتي خروجًا عن مقتضى السياسة والحزم؛ لأنهم
يرون لهم أُسًى في أطفال القرية تحركهم إلى هذا الفعل , ومن أجل ذلك لم أمنعهم من
الذهاب للصيد فانطلقوا في بكرة ذات يوم يصحبهم الأكمه , ويتبعهم قوبيدون مسافة
بعيدة من البيت , وكان أصعب ما عليهم في ذلك الوقت تمييز طريقهم الذي صعدوا
الجبل منه , فلما رآهم قوبيدون في هذه الحيرة اشتدت رغبته في أن يظهر لهم ويسكن
روعهم ولم يمنعه من ذلك إلا إخلاصه في اتباع ما أرشدته إليه فانتظر حتى يرى كيف
يتخلص هؤلاء التائهون من ورطتهم.
أتدري أنه لما جن عليهم الليل انعكس الأمر فيهم كل الانعكاس , فأمسى
الأكمه بصيرًا لأنه بما حفظت ذاكرته ودقة لمسه (التي هي من خواص العمي)
من مواقع الطريق قد ميز الشعاب التي مر بها في الصباح كل التميز فبات قائدًا بعد
أن كان مقودًا , فلما رآه الأطفال على هذه الحالة يسترشد في الطريق بأطراف
أصابعه كأن له فيها أعينًا كادوا يعتبرونه في ذلك الوقت أرقى منهم , فهم في ذلك
كالمتوحش يسهل انتقالهم من شعور متجاوز حده إلى شعور آخر ليس أقل منه
خروجًا عن الحد. ألا يدلنا هذا على أن عبادة بعض الشعوب القديمة لذوي العاهات
من الناس مبنية على مثل هذا السبب.
على أن ميل (أميل) ورفيقيه إلى الإتيان بمثل ما أتى به ذلك الأكمه قد بعث
فيهم روح الاستطلاع , فالموهبة التي أوتيها الأعمى قد يصح لغيره من البصراء أن
يكتسبها بالتمرن لأنك ترى الأطفال قد دلهم حدسهم الفطريّ على بعض طرق من
شأنها أنها تنمي فيهم قوة السمع ودقة اللمس أكثر من غيرها فمن ذا الذي اخترع
اللعبة المسماة بالمَسَّة [٤] لا إخال إلا أن مخترعها هو حاوي [٥] أو غيره من أعضاء
المجتمع العلمي (أكديميًا) فإن هذه اللعبة التي يسميها الإنكليز هنا جلدة الأعمى
ليست إلا تعاميًا تتعرف به الطرق التي للأعمى في معرفة ما حوله. أنشأ (أميل)
ورفيقاه يمارسون فيما بينهم كثيرًا من الألعاب وطرق التدريب التي تقتضي الالتفات
وأعينهم مغطاة , ومع كون الفضل كله للإبصار بالعينين كانت أثرتهم التي هيجها
فيهم ما رأوه من فعل الأكمه توحي إليهم بأن النظر الدقيق هو النظر باللمس , وإني
لفي شك من أنهم ينالون من هذه الجهة بكسبهم ما للأعمى من النظر الطبيعي ولو
قضوا في مزاولة ذلك طول حياتهم , غير أنه من فائدتهم أن يتعلموا في اللعب ما
بين المشاعر من التعاون , وقيام أحدها محل الأخرى , وإني لا أنسى ما كنت
تقوله لي كثيرًا من أنه لا يعرف طرق السمع والبصر حق المعرفة إلا من تعاوره
الخرس والعمى.
يجب عليَّ الآن أن أعود إلى ما كنت بصدده من حكاية اصطياد الغراب
الأعصم فأقول: لم يعثر الأطفال على وكن واحد في الصخور , وذلك لأن (أميل)
ووليم لا يزالان من الضعف بحيث إنهما لا يستطيعان الوصول إلى الشعاف الوعرة
التي يلجأ إليها ذلك الطائر , وأما بلى فلكونها بنت رجل يدين بمذهب المرتجفين [٦]
ترى أن استلاب أفراخ الطير من أمها من فعل الشر. هذا المذهب الديني كما لا
يخفى عليك يورث أصحابه ميلاً عظيمًا للإحسان إلى الحيوانات, ولكون قوبيدون
أقل تحرجًا منها في هذا الأمر , وأحرص دائمًا على فعل ما يرضي (أميل) كان
أمهر منهم أو أسعد حظًّا في بحثه؛ لأنه بتلك الخفة في التسلق التي تمثل إنسان
الآجام في شخصه كان قد اصطاد من بين القنن الصوانية والأدغال زوجًا من هذا
الطائر صغيرًا نبت ريشه , لكن أجنحته لما تطل ليستطيع الطيران , فلما رأى
الأطفال الزنجيّ دهشوا دهشة عظيمة لأنهم ما كان يخطر لهم على بال أنه بهذا
القرب منهم يتدخل في كل مكان , وهو كالليل في السكون , فابتهجوا برؤيته
وزادتهم فرحًا رؤية الفرخين اللذين كانا شبيهين بكرتين من الزغب ركب فيهما
منقاران أحمران حتي إن بلَّى نفسها أبدت من البشر والارتياح في هذه الساعة ما دل
على أنها نسيت أصول مذهبها القويم.
ولما كنت أعلم ما يعامل به الأطفال الطيور عادة إذا وقعت في أيديهم بقيت
وحدي غير مشاركة لهم في هذا الابتهاج العام الذي ولده اصطياد هذين الفرخين ,
ولكن ماذا كان في وسعي أن أفعله أو أقوله , فلو أني قلت لهم: خلوا سبيل أسيريكم
لأطلقوهما ولكن مع الكراهة والأسف. من أجل هذا رأيت أن الأمثل بي الرجوع
إلى طريقة أخرى , وهي أني وضعت الفرخين في حجرة سفلى من حجرات البيت
كنا نضع فيها أدوات البستان فاتخذتها بيتًا للطيور , ثم أخذت أبين (لأميل) أنه
يجب عليه أن يتولى بنفسه تعذيتهما لأنهما أصبحا محرومين من أمهما التي كانت
تعولهما , وبالغت له عن قصد فيما يستلزمه ضعفهما الشديد من ضروب العناية
ليقوم ذلك مقام ما كان يكنفهما من رعاية وليهما الطبيعي , فكان من ذلك أن حبس
نفسه جزءًا من النهار في بيت الطيور , ولم يلبث بهذه الطريقة أن عرف أنه قد
أصبح أسيرًا لأسيريه وصارت كراهته لهذه الوظيفة أمرًا محتمًا , والذي استفاده
فيها من العبرة هو أنه لا يتأتى للإنسان حرمان غيره من حريته إلا بفقد جزء من
حرية نفسه , ولذلك لم تمض بضعة أيام حتى جاءني راجيًا إطلاق الفرخين ليمضيا
في سبيلهما.
لما رأيتني قد نجحت في سوق العبرة (لأميل) في الأكمه صممت على
الاستمرار في تجاربي , فعلمت أن في ضواحي قريتنا راعيًا صغيرًا مشهورًا بالبله
يسخر منه جميع عرمة الأطفال في القرية , ويهزءون بسذاجته , وكنت أرتعد
خشية أن يفعل (أميل) فعلهم لأن القدوة شديدة العدوى والضحك مما ينبغي الرثاء
له واحترامه هو من ضروب القسوة التي في الأطفال , ولكن قد أعانني - ولله
الحمد - على ما كنت بسبيله ما أعملته من الفكر , وما سنح لي من الفرصة. ذلك
أني قابلت هذا الراعي الصغير ذات يوم في الحقول فتبينت فيه أنه يميز كل شاة من
شياهه على حين أن قطيعه كله لم يكن في نظري وفي نظر (أميل) إلا شاة واحدة
مكررة مائة مرة , فتلك إذن مزية له علينا عاهدت نفسي عهدًا أكيدًا على الانتفاع
بها في سياستي (لأميل) , فعرضت عليه في اليوم التالي لتلك المقابلة أن يصحبني
إلى الكثبان حيث علمت بوجود ذلك الراعي هناك , فلما رآه قال: وَيْكَأَنِّي به
المجنون. وهو الاسم الذي يطلق هنا على السخفاء والبله , فتظاهرت له بعدم
الالتفات إلى ما قال , ووجهت نظره إلى خصيصته في تمييز شياهه بعضها من
بعض بمجرد نظره إليها على ضعف عقله مع تشابهها علينا كثيرًا , فكان ذلك باعثًا
لدهشته وموضوع محادثة مع ذلك الأبلة تبين لنا منها أنه على علم تام بأسنان شياهه
وطباعها بل بأقل الشيات الظاهرة فيها , فتسنى بذلك (لأميل) أن يقتنع في نفسه
بأن هذا الجاهل المسكين أعلم منا في بعض الأمور الخاصة به , ولكي أستفيد من
هذا الاقتناع طلبت من الأبله قبول ولدي في مدرسته بضعة أيام يعلمه فيها ما أوتيه
من العلم فقبل ذلك طيبة به نفسه منتظرًا من ورائه مكافأته , بل ربما كان أيضًا
معللاً نفسه بحسن ظن الناس بصلاحيته لبعض الأمور , وكان هذا بحسب ما ظهر
لي من حاله أول إكرام ناله في حياته.
وأما أميل فإنه كان على ما يظهر لي أقل ارتياحًا منه بكثير لهذا الأمر لأنه
بسبب حبه لنفسه وعجبه كان يتألم من أن يكون تلميذًا لشخص يعتبره هو ورفقاؤه
أحمق , ويرى أن في ذلك غضًّا من كرامته , ولكني لم أجد وسيلة أخرى للوصول
إلى مقصدي على أنه لا شيء عليه في ذلك , فلشدَّ ما سيفتخر على أقرانه بإبداء ما
علمه لهم وإن قل , ويظهر لهم من الشمم به مثل ما كان للأحمق عليه , وقد استفدت
من هذا التعليم فائدتين فيه: أولاهما أن ملكة تمييز أدق الفروق التي بين أفراد
القبيل الواحد لا تقتصر على استعمالها في الغنم , بل إنها متى حصلت يصح أن
تتعدى إلى جميع ما تكلم عنه علم التاريخ الطبيعي من صنوف الموجودات , والفائدة
الثانية - وأراها أنفس من الأولى - هي أن يعلم بأننا على الدوام محتاجون إلى
التعلم حتى من أضعف الناس عقلاً.
يتوهم (أميل) أنه لا يكون رجلاً إلا إذا لعب كما يلعب الجندي , ولذلك
تراني أبيح له شيئًا من هذا اللعب موافاة لميله ومراعاة لسنه. ولكني منذ بضعة أيام
رأيت منه في أثناء هذا اللعب ما راعني وأطار لبي؛ إذ رأيت فتيان القرية
منقسمين إلى فئتين وهو في وسطهم يحمل لهم اللواء.
نعم إنهم كانوا يقتتلون بسيوف من الخشب , ولكن لو أنها من الصلب ,
وكانت هذه الأيدي الصغيرة العاملة بها ذات أعصاب قوية لتمثل أمامي قطعًا مشهد
من مشاهد تلك المذابح الفظيعة التي تصبغ أديم الأرض بالدماء , ويسميها الناس
حروبًا , فقمت أنا بما كان يعمله قدماء السابينيين [٧] أعني أننا توسطنا بين
الفريقين المتحاربين , وحجزنا كلاً منهما عن الآخر , فرأى (أميل) مني حتمًا
أنني تألمت لهذه الحادثة لأنه لما رآني شحب لونه وألقى بنفسه بين يدي طالبًا
مسامحته.
إني في الحقيقة - ولا أخفي عليك - قد انجرح قلبي لهذا المنظر وإن كنت
أعلم أنك في يوم ما ستُعَلِّمه - من غير شك - أن هناك حروبًا مبنية على الحق
والعدل , وأن من أجمل ما يتصف به الإنسان ويحمد عليه الذود عن حوزة بلاده
والموت في سبيل الدفاع عن رأيه , ولكنه في السن الذي هو فيه الآن لا يفهم هذه
الدقائق , ولا يرى في الكفاح على أي حال إلا ما يراه معظم الناس من كونه وسيلة
للشهرة والتمايز وذريعة إلى ظلم الأكفاء والنظراء. وسواء اتخذ الأطفال لواءهم من
الورق أو الخرق البالية تراهم كالجنود منقادين إلى وجدان واحد لا تقوى فيه ولا
إيمان فتبعثهم غرائزهم الوحشية على أن يرفعوا أيديًا لا ينقصها من أول نشأتها إلا
قوة القتل ليضربوا بها إخوانهم. إذا كانت الحروب تنتشب بين الحكومات , فليس
ذلك إلا لأن غريزتها قد سكنت قلب الإنسان من أمد بعيد. وكيف لا تسكنه ونحن
نرى القائمين على الأطفال يصرفون عنايتهم الكبرى في إعلاءِ شأن صدى الإنسان
إلى شرب الدم الذي يجعلنا كالوحوش الضواري. فأي اسم من الأسماء الجميل
ظاهرها كالشرف والظفر وحب الوطن لم يقرن بذلك الميل الذي تعبده الناس كما
يعبدون وثن ملوخ [٨] وإني أستعيذ بالله من أن يكون قلب ولدي مغرسًا لهذه الشهوة
التي كلها كذب وقسوة.
لما انتهى أمر هذه الواقعة أخذت (أميل) بيده وانطلقنا , فاتفق أن رأيت في
طريقي تلك الساعة كلبين ضئيلين يقتتلان , ويعض كل منهما الآخر على عظمة قد
قرض نصفها , فقلت له: تأمل , فتلك صورة جميع ميادين القتال , ولست على
يقين من أنه أدرك هذه المرة معنى ذلك الكلام , ولكن أقل ما في الأمر أنه فهم سبب
تأثري , لأنه - وربك - كان بالغًا مني مبلغًا عظيمًا.
أنا مع اعتقادي بما في تقبيح هذه الأوهام السيئة في نظر (أميل) وتشهيرها
من الفائدة له لا أرضى أن يكون جبانًا , ولو أعطيت في ذلك ما في الأرض جميعًا،
وإن الوالدين في الجملة يفرطون أثناء تربية أبنائهم في إساءة التصرف بما فيهم
من وجدان الخوف , فإنهم يجتهدون في إرهابهم بكل ما في وسعهم من طرق
الإرهاب فيخوفونهم من السماء بحجة أن سحبها تُقِلُّ صواعق الانتقام , ومن
الأرض بقولهم: إن الله سبحانه قد لعنها وغضب عليها بسبب خطيئة آدم , ومن
الحياة لأن أعمالهم فيها ستعرض على حاكم يحصيها جميعها , ومن الموت بجعله
محفوفًا بمخاطر لا تنقضي إلى الأبد.
هذه التربية التي أساسها الإرهاب والتخويف إنما تلائم الأرقاء تمام الملاءَمَة ,
ولكني في شك مريب من أنها تنشئ رجالاً أحرارًا. فإذا كان لا بد (لأميل) أن
يرتاع ويفزع فليكن ارتياعه وفزعه من وجدانه وسريرته , ولكني خلافًا لأولئك
المربين أجتهد في تطمين قلبه وتسكين روعه من هذه المخاوف المبهمة الخيالية التي
كثيرًا ما تلازم أذهان الأطفال , وأود لو أراه شجاعًا جريئًَا على الأشياء وديعًا
مخفوض الجناح للناس فالواجب أن تكتسي الشجاعة حلة الشرف الحقيقي لا أن
تتحلى منه بالبهرج الكاذب.
رأيت (أميل) كغيره من الغلمان الذين في سنه يخاف من الليل ومن كل ما
ليس معروفًا له فيوجد في أقصى البستان روضة من شجر البندق المتوسط في الكبر
لا يجرؤ على دخولها وحده بعد غروب الشمس كأنه يخشى أن يؤكل فجأة , وعلى
أيّ حال ليس في الأمر ما يدعو إلى الإفراط في الاستغراب , فإن الأطفال لم يكونوا
ليشتغلوا بأحدوثة الأصيبع [٩] كل هذا الاشتغال الذي نعلمه منهم لو لم يبق فيهم أثر
من الإنسان الوحشي الذي كان يعيش محوطًا بجميع ما في الكون من الأغوال ,
وربما أن الذي يمنع (أميل) من الدخول في تلك الروضة مساءً هو إشفاقه من أن
يقابله فيها ذئب القبيبعة الحمراء [١٠] . وبالجملة فهو نفسه لا يعرف أن يعبر عما
يرهبه , والحقيقة أنه يخاف من ذلك الشيء الذي يسمع عنه بأنه يجول في الظلام.
لما رأيت أن آثار الخوف ألصق بالنفس من جميع الآثار والانفعالات , وأن
التظاهر بمقاومتها لا يزيدها إلا ثباتًا اقتصرت على أن حسنت (لأميل) دخول
الروضة المذكورة مستصحبًا الدبة لأنها لا ترهب شيئًا ولاستعدادها في كل وقت
لاقتفاء أثره , فلما رأى بهذه الواسطة أن له رفيقًا لم يمتنع من الدخول , ولم يلبث
أن عرف أن الذي كان يشوش ذهنه إلى تلك الساعة إنما هو وحشة المكان وخلوه
من الأنيس , ولم تفتني الاستفادة من هذه العبرة أنا أيضًا لأنني قد فهمت بها جميع
ما قد زاد في نفس الإنسان من القوة بسبب اختلاطه بالحيوانات المستأنسة في
أعصره الأولى.
أنا إلى اليوم ملتزمة مع (أميل) عدم الخوض في المسائل الدينية موافاة
لرغبتك , ولكن قد حصلت بيننا واقعة في الأسبوع الماضي ينبغي أن أقصها عليك،
ذلك أننا رأينا في عصر ذات يوم من ذلك الأسبوع هيدبًا من السحاب رصاصيّ
اللون كان أول ما رأيناه قزعًا , ثم تراكم حتى صار مكفهرًّا , ثم اختلط فصار قطعة
واحدة مظلمة أناخت على الماء بكلكلها , وكنا نرى شعاعًا أكدر من أِشعة الشمس لا
يزال يخترق هذا الستار الحدادي في بعض جوانبه , ولم يكن إلا قليل حتى غاب
في شبه دجنة مخيفة منذرة بالمطر , ثم انقطع هبوب الريح فلم يبد منه أقل نفحة ,
وقلما كنا نسمع من بعد تنفس الخليج بأمواجه وهي تعلو وتنخفض بثقل كأنها صدور
المكروبين اللاهثين , ونظرنا إلى الشاطئ فلم نر فيه عود حشيش واحد يتحرك
فكان الكون في سكونه هذا كالمشدوه الغائب عن رشاده يتوقع حصول أمر عظيم له ,
ثم لم يكن إلا أقل من ساعة حتى عصفت العاصفة بعد كمونها , ثم صدع البرق
قبة السحاب المتراكب صدعًا مُتَمِّجًا , وقصف الرعد لأول مرة فاهتز له جميع
البيت فارتعدت فرائص (أميل) وأسرع إلي محتمياً بي مستندًا إلى صدري كأن في
قدرتي أن أمنعه من هياج الفواعل الكونية , ثم تعاقبت البروق والصواعق وأنشأ
ماء الخليج يغلي وهو أكدر مزبد كالسكب (البرنز) صهر في مرجل ثم أخذ الريح
بعد ارتفاعه فجأة يبدد سيول المطر مزمجرًا , وكنا نسمع هزيم الرعد في السحاب
من بعيد , ونرى وميضًا فجائيًّا متتابعًا , ثم تبع ذلك كله الهدوء والسكون.
ولما كان (أميل) أكثر من في الأرض مسألة قد سألني وهو متأثر قائلاً:
(أماه ما هذا الذي ثار غضبه فوقنا) فحرت هذه المرة حيرة شديدة في إجابته لأني لو
قلت له: إن ذلك هو الله لكنت قد ألقيت في ذهنه معنًى سخيفًا لذلك الذات الكامل
القدرة البالغ الحكمة المبرَّأ عن الانفعالات, فاقتصرت على أن فسرت له بأحسن
عبارة مناسبة لفهمه سبب هذه الظواهر التي أزعجته , ولكن الغلام قد أدرك بحدسه
من هذه الأصوات الشديدة التي سمعها من العاصفة ومن هذا الجوّ الممتلئ
بالمفزعات الإلهية , بل وربما أنه أدرك أيضًا من عيني اللتين كانتا على رغمي
أكثر من لساني كلامًا. نعم أدرك من كل ذلك أن من وراء هذه الآثار شيئًا آخر ,
وذلك حق لأن الله سبحانه ليس ظاهرًا للعيان فيشار إليه بالبنان , ولكنه موجود
يحس به الوجدان ويعرفه الفكر والجنان. من أجل ذلك قمت أنا (وأميل) وأدينا
فرض العبادة لذلك المريد الذي لا حدَّ لإرادته القادر الذي بيده مقاليد السموات
والأرض , وإن كان عقلنا لا يصل إلى إدراك كُنْه ذاته.
أنا في كل يوم تبدو لي صعوبة العمل الذي شرعت فيه فإن طريقة التربية
بالعمل التي أسير عليها تقتضي أن يكون في المربي معارف أنا خلو من كثير منها ,
ولكن هذا لم يمنعني من اعتقاد أنها هي الطريقة الوحيدة في تقويم خلق (أميل) ,
ثم اعلم أن حياتي بدونك إنما هي فراغ أجتهد في ملئه بالقيام بذلك الفرض العظيم ,
ولم يبق لي من غرق سفينة آمالي إلا ولدنا الذي أتثبت به تثبت الغريق بلوح النجاة ,
وأحبه لذاته , ولكن على أن بعض هواجس مشئومة تمرّ بخاطري من حين إلى
حين فتكدر صفاء ما في قلبي له من نفيس عواطف الحب. ذلك أني أقول في نفسي:
ماذا يكون الحال إذا كان هذا الطفل بعدما بذلناه له من صنوف العناية يخون في
مستقبل أيامه عهود والده وينكر مبادئه ويدوسها تحت قدميه ولا يكترث بما عراه من
الآلام طول حياته؟ إذًا لأقتلنه.. كلا بل أقتل نفسي , ولكن تحقق هذه الهواجس من
المستحيل , وأرجو أن يصلني كلمة منك تزيل عني هذه المخاوف المكدرة التي بلغ
تشويشها إلى أعماق نفسي.
* * *
(تنبيه ورجاء)
قد انقضت سنة المنار الثالثة فلم يبق منها إلا عدد واحد فنرجو من المشتركين
الكرام التفضل بإرسال قيم الاشتراك حوالة على البوسطة , وليعتمد أهل ملوي
ونواحيها حضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل وكيلاً للمنار.
((يتبع بمقال تالٍ))