للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أماليّ دينية
(الدرس ١٧ في العقائد)
كلام الله تعالى

م (٥٠)
كل قضايا الدين تعرف من الوحي إلاَّ الإيمان بالواجب الذي يسند
إليه كل موجود من الممكنات , ويكون هذا الواجب ليس من جنس الممكنات , ولا
يشابهها في صفاتها , وبأن ما يصدر عن قدرته الكاملة منها يصدر بإرادة واختيار
عن علم وحكمة. ثم إن الوحي الذي به علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف
يرشدون الناس سماه الله تعالى كلامًا وأضافه إليه بمثل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ
المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: ٦) .
والعقل يشهد أن رجلاً بلغ أربعين سنة لم يصدر عنه فيها شيء يؤثر من علوم
الاجتماع والشرائع والأخلاق والسياسة المدنية والحربية وغير ذلك لا يمكن في
العادة أن تصدر عنه هذه المعارف والعلوم بعد ذلك فضلاً عن القيام بها تعليمًا
وعملاً على وجه يكون له أعظم أثر في العالم , بل المعهود في البشر أن الذين
يتعلمون الفنون السياسية والاجتماعية في المدارس لا يحسنون سياسة البشر عملاً
إذا لم يتمرنوا عليها بالتدريج , ولذلك يرشحون الذين يتصدون لسياسة الأمم بالتعليم
أولاً , ثم بتطبيق العلم على العمل بالوظائف الصغيرة كمأمور ومدير , ثم بما فوقها
حتى ينتهون إلى الوزارة والإمارة. ونتيجة هذا أن ما جاء به النبي صلى الله عليه
وسلم من التعاليم ليس من عند نفسه , وإنما هو مفاض عليه وموحى إليه من العليم
الحكيم, فهو كلام الله تعالى لا كلامه؛ لأنه لم يعهد منه مثله لا في أسلوبه وبلاغته.
ولا في مغزاه وحكمته. وقد أشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو
مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨)
وقوله عزّ وجل: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: ١٦) .
م (٥١)
هذا ما يجب اعتقاده على كل مؤمن , وهو الحق الأبلج الواضح المنهج. وهو ما
كان عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم حتى حدثت البدع
والفتن التي كان من أضرها الكلام في القرآن ومعنى كونه كلام الله تعالى , والبحث
في أنه مخلوق أو غير مخلوق. فتنة افْتَحَوَهَا المعتزلة [١] وابتلي بها أئمة العلم
وتلاعبت أهواء بعض الخلفاء من بني العباس ثم محيت طائفة المعتزلة من لوح
الوجود , ولم تمح أقاويلهم من ألواح الكتب فكل من كتب في العقائد يذكرها للرد عليها
وتطرف قوم في الرد حتى قالوا بقدم المحسوسات. من الحروف والأصوات. توسعوا
في هذه المباحث وأطالوا القول فيها حتى قيل: إن هذا العلم إنما سمي (علم الكلام)
لأن أهم مسائله كلام الله تعالى.
سلك المعتزلة في جدلهم مسلك الفلسفة في حقائق الأصوات والحروف
ومفهوماتها , فقابلهم المتكلمون بفلسفة كفلسفتهم , وقرروا مسألة الكلام على النحو
الذي انتحوه في صفة العلم والسمع والبصر , فقالوا: إن الكلام في اللغة يطلق على
قوة في النفس عنها يصدر الكلام اللفظي , واختلفوا في أي الكلامين - النفسي
واللفظي - هو الحقيقة وأيهما المجاز. واستدلوا على الكلام النفسي بمثل قول الناس:
(حدثتني نفسي بكيت وكيت , وقلت في نفسي كيت وكيت) ومنه قول سيدنا عمر
رضي الله عنه: (زوَّرت في نفسي كلامًا) وقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقالوا بناءً على قاعدتهم في قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث
التي سبق تقريرها في الكلام على العلم الإلهي: إن لله كلامًا نفسيًّا هو صفة قديمة
قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل ما علمه تعالى تعلق دلالة وانكشاف , وكلامًا لفظيًّا
كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن , وأن هذا يسمى كلامًا لله بمعنى أنه يدل على
الكلام النفسي أو على بعض ما يدل عليه الكلام النفسي , وأنه ليس لغير الله فيه
صنع إلى آخر ما أطالوا به مما لم يكلفنا الله تعالى به. وقد ناقش فيه بعضهم أن
بيت الأخطل لا يصح الاحتجاج به في موضوع ديني لأنه كان نصرانيًّا ويدخل في
نظمه المعاني والأفكار التي أخذها من تعاليم دينه , وقول آخرين إن البيت ليس له
وإن الرواية الصحيحة فيه: إن البيان لفي الفؤاد , وكبحث بعضهم في حديث النفس
وتسميته كلامًا بأن تزوير الكلام في النفس (تهيئته وتدبيره) هو عبارة عن تصوره
وإذا عبر الإنسان عن تصور شيء يسميه باسمه لأن ما في النفس هو صورة ما في
الخارج , فالحديث النفسي هو صورة الحديث اللفظي المسموع بالآذان عندما يؤديه
اللسان.
وسواء صح هذا القول أو صح مقابله فلا ريب أن القرآن كلام الله تعالى ,
وقد مر في المسألة السابقة دليله , ومن البدعة - لا من السنة - أن نزيد على ذلك
بقياساتنا وفلسفتنا , وقد أراحنا الله من فتن الغالين من المعتزلة وغيرهم فلا نعيد
شبههم وأوهامهم , وحسبنا ما كان عليه الصحابة وأكابر التابعين والمجتهدين.
رضي الله عنهم أجمعين.
م (٥٢) أقوال الأئمة في الكلام
نقل عن الأئمة الأربعة المجتهدين وأهل الحديث من السلف الصالحين.
رضوان الله عليهم أجمعين القول بتحريم الخوض في (الكلام) . قال يونس بن
عبد الأعلى: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول يومًا وقد ناظر حفصًا الفرد -
وكان من متكلمي المعتزلة-: لأن يلقى الله تعالى العبد بكل خطيئة ما خلا الشرك
خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام , ولقد سمعت من حفص كلامًا ما أقدر أن
أحكيه. وحكى حسين الكرابيسي أن الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال
سل عنه هذا - يعني حفصًا الفرد - وأصحابه أخزاهم الله. وقال محمد بن عبد
الله بن الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا
منه فرارهم من الأسد. وقال ابن كثير: كان محمد بن اسماعيل الكرابيسي يقول:
قال الشافعي: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد وما سواه فهو الهذيان.
وأخرج ابن عبد البر في كتاب العلم عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال: سمعت
الشافعي يقول: إذا سمعتم الرجل يقول الاسم غير المسمى , أو الاسم المسمى
فاشهدوا عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له. وقال أبو علي الحسن الزعفراني:
قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في
العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وفي رواية:
حكمى في أهل الكلام كحكم عمر في صبيغ (تقدمت قصته في مجلد السنة الأولى
من المنار) .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى فيما أخرجه اللالكائي في السنة عن مصعب:
الكلام في الدين كله أكرهه , ولم يزل أهل بلدنا - يعني المدينة المنورة - ينهون
عن الكلام في الدين , ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل , وأما الكلام في الله
فالسكوت عنه. وأخرج أيضًا من رواية الحسن بن عليّ الحلواني قال: سمعت
إسحق بن عيسى يقول: قال مالك بن أنس: أكلما جاءنا رجل تركنا ما نزل به
جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. وأخرج أيضًا من رواية محمد بن
حاتم بن بزيع قال: سمعت ابن الطباع يقول: جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله
عن مسألة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا , فقال: أرأيت لو كان
كذا؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يفلح صاحب الكلام أبدًا ولا
تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه غل. وصنف الحرث المحاسبي أستاذ
الشيخ أبي القاسم الجنيد رحمهما الله تعالى كتابًا في الرد على المبتدعة ذكر فيه شيئًا
من الكلام يرد فيه على المعتزلة فهجره الإمام أحمد على زهده وورعه. قال أبو
القاسم النصرباذي: بلغني أن الإمام أحمد هجره بهذا السبب , ولما أنكر عليه تلك
المقالات وأجابه الحرث بأنه إنما ينصر السنة ويرد البدعة قال أحمد: ويحك ألست
تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدع
فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ . وقال: علماء الكلام زنادقة.
وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فيما أخرجه
اللالكائي في السنة والذهبي في التاريخ والخطيب في شرف أصحاب الحديث:
من طلب المال بالكيمياء أفلس , ومن طلب الدين بالكلام تزندق. وفي رواية بشر
بن الوليد زيادة: من تتبع غريب الحديث كذب. وكلام السلف في هذا كثير.
والجمع بينه وبين مسلك علماء الخلف الذين أوغلوا في صناعة الكلام والجدل أن
هذا يطلب لضرورة إقناع الخصوم وردّ شبه المنكرين , والضرورة تقدر بقدرها
وتختلف باختلاف الزمان وأنواع الشبهات , فمن العبث المذموم أن تعاد شبه
المعتزلة والفلاسفة الأولين في دروس الكلام وكتبه , وتعد من الفروض اللازمة
وتترك شبه الفلاسفة المعاصرين وغيرهم من أعداء الدين تتلاعب بالعقول , فلا
يقدر الذين يتعلمون على طريقة الأزهر ردها ولا فهمها بل يكتفون بتكفير من يسأل
عنها. وفقهم الله للعلم النافع لتحيا بهم هذه الأمة.
((يتبع بمقال تالٍ))