للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الداء والدواء

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه
من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه
هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له
بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت
عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة
حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله،
وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: ٦٥-٦٦) .
جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية،
يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون
أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد
فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم
في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما
كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: ٣٣) .
استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح
السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ
الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب
الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: ١٤) ،
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: ٢١٣) ،
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الغَافِلُونَ} (الأعراف: ١٧٩) .
غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم،
وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم
الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء،
والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين
واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران:
٢٣-٢٤) .
الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين،
كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على
صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون
بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي
فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم
إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض
رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: ٦) .
هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض
الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: ٤٩) فإن ذلك
الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من
ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء
والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين،
ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا
يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون
بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) .
تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد
ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة،
فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد
على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا،
وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد
الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في
عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ
القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) [١] .
ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا
سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور
ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا
الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على
شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة
والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: ٤) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه
أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل
عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: ٢١٤) فقال: (يا معشر قريش،
اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم
من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت
محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف
أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم
ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان
وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: ٢١) .
ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى
حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها،
فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم
عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا
اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة،
وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي
المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية
القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في
أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها،
وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: ١٨٧) .
فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها
حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على
غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع
بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول
الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في
القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا
بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض
كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات
والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها،
فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما
يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ
عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: ٢٢-٢٣) .
أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من
صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل
المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها
وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: ٣٩-٤١) حكم عام للآخرة والأولى، ثم
الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله
تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة
إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا
القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) .
ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما
يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة
الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت: ٥٣) ، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: ٦١) ،
{لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: ٦٧) .