للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القسم الديني [*]
القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات
(الدرس الثامن عشر)
الحاجة إلى الوحي والنبوة
تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه
كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة
وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ،
وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن
النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر
إليه وحال من جاؤوا به.
المسألة (٥٣) : الأرواح الخالدة
الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة
الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا
فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين
فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها
من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات
إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين
والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب.
هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل
طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات
فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل
شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا
الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من
السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد
لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم
السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم
يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم.
هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في
إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء
الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة
جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من
الدرس الأول.
م (٥٤) الحاجة إلى الوحي في الدنيا
لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء:
(الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم
والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك
أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه
بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها
من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات
للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل
إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه
التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من
أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين
تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين
عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه
حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد.
يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم
يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في
نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم
الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها
وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح
ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير
مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة
وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية
يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية
بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع
أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين،
انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن
عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر
صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم
من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم
على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة
تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها
إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول
أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان
المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة،
وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش
والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن
الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في
الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار
الآتية إن شاء الله تعالى.
نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان
أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما
حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع
لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على
كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن
قررت القوة خلاف ما قررناه.
للكلام تتمة
((يتبع بمقال تالٍ))