للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رواية عربية

أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه
كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل
حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه
بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى
فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا،
فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به
فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل،
فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا
جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء
السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني
الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح
رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له
الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك،
وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة.
قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت
يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة:
تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول:
تأوَّبني فبت لها كنيعًا ... هموم لا تفارقني حوان [١]
هي العوَّاد لا عوَّاد قومي ... أطلن عيادتي في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عني ... ثنى ريعانهن عليَّ ثان [٢]
فإن مقر منزلهن قلبي ... فقد أنفهنه فالقلب آن [٣]
أليس الله يعلم أن قلبي ... يحبك أيها البرق اليماني
وأهوى أعيد إليك طرفي ... على عدواء من شغل وشان [٤]
ألا قد هاجني فازددت شوقًا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غَرَب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحذو ... ببعض الطير ماذا تحذوان
فقالا الدار جامعة قريبًا ... فقلت بل أنتما متمنيان
فكان البان إن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
فما بين التفرق غير سبع ... بقين من المحرم أو ثمان
فيا أخوي من جشم بن سعد ... أقلا اللوم إن لم تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات حجر ... وأودية اليماني فانعياني
إلى قوم إذا سمعوا بنعيي ... بكى شبانهم وبكى الغواني
وقولا جحدر أمسى رهينًا ... يحاذر وقع مصقول يماني
يحاذر صولة الحجاج ظلمًا ... وما الحجاج ظلامًا لجان
ألم ترني عددت أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مِجنّ جان
فإن أهلك قرب فتى سيبكي ... على مهذب رخص البنان
ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي ... ولا حق المهند والسنان
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر
على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [٥]
وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى
عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد
أنشأ يقول:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك
وشدة في نفسه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك
فهو أحق منزل بترك ...
فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه
على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط
ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على
ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم
جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر
عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة
بديعة نذكرها في جزء آخر.