للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قسم الأحاديث الموضوعة
الموضوعات في العلماء والزهاد

ذكرنا في الجزأين ٢٧ و ٢٨ من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة
في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث
الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر
الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين
تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية
وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم
لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من
عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد
فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين
بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا
يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين،
وقليل ما هم.
فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس
في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند
الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم
والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن
أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل
به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح
رواية.
ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار
بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه.
ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو
موضوع.
ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار
العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه.
ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض) ، قالوا: إسناده
لا يصح.
ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة
الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع،
وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء.
ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي
جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به
على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح،
وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على
قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء،
وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي
العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن
كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه
الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه
الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون
بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟
ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في
الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن
عساكر منكر.
ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه) ، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم
ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا
أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ
وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة.
ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع
علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة
ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه
الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في
إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي
فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب،
قال في الميزان: هذا خبر باطل.
ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر،
فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن
أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم
تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي
يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه
وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث.
ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا
عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل
إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة
قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب
شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح
سنده.
وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها
آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين
يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء
أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل
فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب
ذلك.
وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما
ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى
مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ
من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب
الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم
والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من
الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني،
والقراء: العلماء، والله أعلم.