للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مضار اللَّثْم والتقبيل
أمريكا مصدر العجائب، ومعدن الغرائب غير أن العجائب والغرائب فيها
فُقِدَتْ بتجاوزها حدود التواتر الصفات اللاصقة بالشواذ، والنوادر؛ لأنها حلت عند
أهلها محل الأشياء العادية عند غيرهم.
ومن أعجب ما أتحفتنا به من غرائبها ما قرره حاكم ولاية نيوجرزي إحدى
ولاياتها من منع أشهى الأشياء إلى الإنسان، وموضوع تغزل الشعراء في كل زمان
وأول ما ينبعث إليه بعامل الغريزة كل عاشق ولهان، وأقوى مؤكد للألفة في قلوب
الأحباب، وهو: (لثم الثغور أو رشف الرضاب) .
القارئ لهذا الخبر يحكم من أول وهلة أن الآمر بالمنع مصاب بخبل في عقله،
ولكن الأطباء أجمعوا على حسن صنعه؛ لأن جراثيم الأمراض المعدية كالحمى
الوافدة مثلاً مقرها المنخران والفم، فإذا لثم واحد آخر في ثغره وكان أحدهما
مصابًا بهذا الداء أصيب الثاني به في الحال بالعدوى من الأنف أو الفم، فالأولى
بمن يريد وقاية نفسه من الأمراض أن لا يعرك مارن أنفه بمارن أنف من يُقَبِّل ثغره
كما يفعل المتوحشون سكان بعض سواحل المحيط الهادي، بل يحسن به أن يصافح
من يريد السلام عليه باليد؛ فإن اليد خير وسيلة لتبادل التحية بين المهذبين.
ولا يخلو الحال من أن ينتقد قصار العقول على حاكم نيوجرزي؛ لكونه أصدر
قرارًا لا يمكنه القيام بالرقابة على تنفيذه، ويسخر به، والسخرية في مثل هذه
الأحوال أقرب ما يتدرع به الجهال؛ ولكن كم ألوف من المنشورات والقرارات التي
لو عمل بنصوصها لاتقيت المعاطب، ودُرئت المصائب لم تلبث ممثلة في حيز
خواطر الحكام إلا ريثما يجف مدادها، ثم اندرجت في طي النسيان ودخلت في خبر
كان.
فقرار حاكم نيوجرزي لم يكن والحالة هذه مظهرًا من مظاهر الجنون، ولا
عملاً قصد به مجرد التحكم في مرؤوسيه من الأهالي؛ إذ لم يسلم عقل عاقل أن
رجلاً تعهد إليه أمور ولاية بأسرها، وينقاد لأوامره جميع سكانها، يقضي شهورًا
وأيامًا في تشييد معالم قراره على أساسات متينة من الأسانيد العلمية بدون أن يأنس
ميلاً من الأهالي إلى إبطال عادة التقبيل الواضحة الأضرار بتأثيرها المادي في
صحة الإنسان.
فإن الرجل شاهد من القوم في إبان الأمر تذمرًا شديدًا من إبطال عادة قديمة
شائعة بينهم، وهي تقبيل الإنجيل بعد حلف اليمين أمام القضاة، وتتبع آثار
المناقشات التي قامت بين القضاة والشهود بسبب ما كان يراه الفريق الأول من
وجوب التقبيل، وما كان ينزع إليه الفريق الثاني من الامتناع عنه، واعتبر بما
جنح إليه الشهود من الإصرار على الإباء وتفضيلهم دفع الغرامة المقررة قانونًا في
مثل هذه الأحوال على تقبيل كتاب لمسته شفاه ألوف غيرهم من قبل، وليس
الغريب في الحادثة كلها تعنت فريقي القضاة والشهود وتمسكهما بما ذهب كل منهما
إليه، وإنما الغريب اتحاد السلالة السكسونية في النزعات والأميال؛ فإنه ما شاع
خبر الشروع في منع التقبيل بنيوجرزي، حتى قامت قيامة الميكروبيين في إنكلترا
وكندا وأستراليا ورفعوا أصواتهم مطالبين بمنع تقبيل الكتاب المقدس أمام القضاة،
وحدثت بينهم وبين هؤلاء حادثات أفضت إلى مثل النتيجة التي أدى الخلاف إليها
بين الفريقين في ولاية نيوجرزي.
وكما يعود إلى الأمريكيين الفضل في اقتراح إبطال تقبيل الإنجيل، يعود
إليهم فضل حل هذه المشكلة على أحسن الطرق، حيث قرروا تجليد هذا الكتاب
بمادة السلولوئيد (مادة من السلولوز القاعدة في تركيبها النثر والكافور) ، بدلاً عن
الجلد؛ لأنه بحالته الجديدة يمكن غسله وتطهيره بالمواد المطهرة عقب كل قبلة.
ولكن مسألة القبلة بوجه العموم كانت قد أخذت دورًا مهمًّا في المناقشات بين
الناس، واتسع خرقها، ولم يكن تجليد الإنجيل بالسلولوئيد حاسمًا لها؛ إذ تألفت في
الحال عصابة من الأهالي دعت نفسها (عصابة منع التقبيل) ، وسلمت مقاليد
زعامتها لأحد نطس الأطباء، فأثارت حربًا عوانًا على اللثم والتقبيل، وأبانت
بالبراهين القاطعة مقدار ضررهما بالصحة، ومن هذه الأدلة: أن اليابانيين يجهلون
عادة التقبيل، ولذا كانت جسومهم أبعد من جسوم غيرهم عن الأمراض، وقد
ناقضه في هذه الدعوى طبيب أمريكي عاش طويلاً بمدينة طوكيو عاصمة اليابان
حيث قال: إن اليابانيين لا يجهلون عادة التقبيل العامة في جميع الشعوب، وغاية
الأمر أن حكومتهم منعت من تقبيل الأطفال خوفًا من وصول الأمراض إليهم
بالعدوى.
ومهما يكن من الأمر فقد استدرجت العصابة إلى حزبها كبار الأطباء، وثقات
العلماء، وقرروا إصدار منشور ببيان ما يدعو إلى التخلي عن عادة التقبيل المضرة؛
فإن القبلة تنقسم إلى قسمين: قبلة يقصد بها مجرد الشهوة وهي لا يختلف اثنان في
ضررها، إذ امتزاج اللعابين بارتشاف الرضاب أقوى موصل للجراثيم من المريض
إلى السليم، وقبلة اصطلاحية وهي التي اتفق الناس عليها لإظهار شوق، أو
الاعتراف بصنيع حسن، وتكون عادة في الوجنة أو اليد، ولسنا نرى أن ترك أثر
من لعاب الفم قد يكون مشحونًا بجراثيم الأمراض المعدية عليهما يعد من مظاهرات
الشوق، أو دلائل الشكر إذا كان مصير ذلك الأثر أن يكون مركزًا تنبعث منه
جراثيم العدوى إلى الكثيرين بواسطة من وسائط الانتقال التي يضيق المقام عن
حصرها، ولذا ننصح القراء بترك تلك العادة القبيحة فوق ضررها، ونرجو أن
يقوم بيننا أمثال والي ولاية نيوجرزي؛ ليرشدونا إلى الصواب في أخص أمورنا
وأجلها وأنفعها لنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م