للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: كمال الدين المرغناني


الفقه الإسلامي

كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من
تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم
الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه،
ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم
الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء
الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم
بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور
بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين
إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم
يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو
بحروفه:
كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما
استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها
نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب،
فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى.
وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في
نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي
إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها.
ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية ...
إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما
سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة
في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي:
أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من
قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها،
والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما
جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط
بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة
بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة،
وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء
الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا
بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد
بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق
الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا
وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة
الاستقصاء، وليس هذا محله.
هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ
أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد
لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما
اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد
بالتشريع [١] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه
الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى
يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم
تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل
أمة مجتمعين لا منفردين.
لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع
الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية
التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة
بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم -
لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين
فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع
الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس
الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان.
ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل
يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي
ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء
المسلمين هم الملومون.
ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من
حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من
الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين
والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى
على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد
يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة
العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول
التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى
خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة
أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) أي: في
الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة
التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم
أدرى بأمر دنياكم) .
من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر
إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك
خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط
الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس،
ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛
لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات،
فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام
المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب
اعتقادك بفوائدها نوهت.
وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع
قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين
باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت
حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد
للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين.
والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار
لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل
أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث
كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا
القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ
الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة
الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل
الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا
الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا
للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه
لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في
المعاملات.
لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع
وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره
الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة
التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة
لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من
مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به
المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل
يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا
وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما
جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى
فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات
الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم
به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما
مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام
السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن
وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان.
على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد
دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله
سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع
من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية
بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها
دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن
كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود
خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل
والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد.
هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن،
وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما
في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة
والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين.
(المنار) :
إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى
الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما
في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من
زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال
السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول
سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي
بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكثرهم من
الأعاجم، كما جاء في كتاب الشيخ المردود عليه بهذا الجواب.
وأكثر المعتدلين في الشرق والغرب على الوجه الأول، وقد كتب إلينا بعض
الفضلاء في الجزائر من مدة بما يأتي:
رأيت مقالة تناسب مشرب مجلتكم المفيدة، فأحببت أن أبعث بها إليكم
لتدرجوها فيها إن شئتم بعد تمهيد ترتبط به:
في الجزء الثاني صفحة ٢٤ من رحلة العلامة الشهير المرحوم الشيخ أبي
سالم عبد الله العياشي المسماة بماء الموائد المطبوعة في حاضرة فاس أواسط جمادى
الثانية عام ١٣١٦ ما نصه:
(إني كنت أود لو أن الله قيض لهذه الأمة من يجمع أربعة من محققي علماء
كل مذهب من هذه المذاهب الأربعة الموجودة، ويختار لكل واحد جماعة من أهل
مذهبه يستعين بهم في المطالعة وتحقيق ما يشكل عليه من فروع الديانات، فيأمر
الأربعة بالاجتماع في محل واحد في وقت مخصوص من ليل أو نهار بقصد تأليف
ديوان في فروع الفقه، ويتخذ لهم كُتَّابًا مهرة يستعينون بهم، ويجري على الجميع من
الجرايات ما يكون سببًا لفراغ بالهم لما هم بصدده، وبعد مراجعة كل واحد منهم مع
أصحابه ما يحتاج إليه من كتب مذهبه في المحل الذي يؤلفون فيه - يجتمعون،
فيتتبعون فروع الديانات الجزئيات من أول مسألة مدونة في الفقه على قدر طاقتهم
إلى آخرها، فيذكر كل واحد مشهور مذهبه في كل نازلة، فإذا علموا مشهور
المذاهب في كل مسألة مسألة نظر من تصدى للكتابة والتأليف عندهم إلى المسائل
المتفق عليها بينهم، فأثبتها ولا يحكي شيئًا من الخلاف فيها، ثم المسائل المختلف
فيها يقتصر فيها على قول ثلاثة منهم إن اجتمعوا، ويحذف قول الرابع، ثم إن قال
اثنان بقول واثنان بقول جعلها ذات قولين مشهورين، ثم إن تباينت آراؤهم في
النازلة وهو قليل حكاها بلا تشهير، وتكون مسألة خلاف ويقدم ما كان منها مستندًا
إلى كتاب، ثم ما استند إلى سنة، ثم ما استند إلى أثر صحابي قوي، ثم ما أخذ من
الاجتهاد، فإذا أُلِّف الديوان على هذا الوصف، وحمل الناس على اتِّباعه - كان أقرب
لضبط الانتشار الواقع الآن، وكثرة الخلاف الواقع بين أهل المذاهب والتعصبات
الفاحشة المؤدية إلى تضليل بعضهم بعضًا ... إلخ، انتهى ما تعلق بنقله الغرض
بنصه وفصه.
... ... ... ... ... ... ... ... كمال الدين المرغناني

من الجزائر في ٢٣ من شوال سنة ١٣١٨
(المنار)
أما رأينا في الفقه فموافق لما جاء في المحاورة بين المصلح والمقلد، وقد
ضاق عنها هذا الجزء وما قبله، وستُنشر في الجزء الآتي إن شاء الله.