للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العشق وحرية العرب

دخل يزيد بن معاوية على أبيه في أيام حكمه مستأذنًا بقتل أبي دَهْبَل وهب بن
زمعة الجمحي؛ لأنه أكثر التغزل في أخته عاتكة، واشتهر بعشقها، وسارت
بأشعاره الركبان، وتغنى بها الناس، فقال معاوية: وماذا قال؟ فأنشده يزيد أبياتًا من
قصيدة أبي دهبل النونية وهي:
طال ليلي وبت كالمجنون ... ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
فبكت خشيت التفرق جُمْل ... كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون
فلما أنشد هذا البيت وما قبله، قال له معاوية في إثر كل واحد منهما: هي كذلك
يا بني، ولقد صدق. فلما أنشد:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال معاوية: كذب في هذه يا بني. وبعد البيت:
قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجًا عن يميني
ولقد قلت إذ تطاول سقمي ... وتقلبت ليلتي في فنون
ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون
وهذا البيت من الحسن بالمكان الذي تراه.
وعزم معاوية أن يكلم أبا دهبل في الأمر، فتربص به حلمه حتى إذا كان في
يوم جمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل
الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل
ينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل إلي. فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال
له: ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول: (ولقد قلت إذ تطاول
سقمي) إلى آخر البيتين، غير أنك قلت: هي (زهراء) - البيت والذي بعده -،
والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي
شيء زدت في قدرها؟ ولقد أسأت في قولك: (ثم خاصرتها) البيت. فقال: والله يا
أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني. فقال له معاوية: أما من جهتي فلا
خوف عليك؛ لأنني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن
يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار
يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك. فحذر أبو دهبل
وخرج إلى مكة. ويقال: إن معاوية أراد ذلك لتنقضي المقالة عن ابنته.
أما سبب عشق أبي دهبل لعاتكة فقد روي فيه أنها لما حجت نزلت من مكة
بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة في وقت الهاجرة، وقد اشتد الحر وانقطع
الطريق، أمرت جواريها فرفعت الستر وهي جالسة في مجلسها، وعليها شفوف لها
(ثياب رقيقة) تنظر إلى الطريق، فمر أبو دهبل فوقف طويلاً ينظر إليها، ويمتع
نظره بمحاسنها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له شتمته، وأمرت بإرخاء الستر،
فقال:
إني دعاني الحين فاقتادني ... حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذا سبني مدبرًا ... مستترًا عني بجلباب
سبحان من وقفها حسرة ... صبَّت على القلب بأوصاب
يذود عني إن تطلبتها ... أب لها ليس بوهاب
أحلها قصرًا منيع الذُّرى ... يُحمى بأبواب وحجاب
ثم أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكة وتناشدها الناس،
وغنى بها المغنون، وسمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فضحكت وأعجبتها، وبعثت إليه
بكسوة، وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فكان
ينزل قريبًا منها، وكانت تتعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها،
فانقطعت عن لقائه في بيت الإمارة والملك، ولم يعد يراها، فمرض مرضًا طويلاً
وأنشد القصيدة النونية المذكورة آنفًا.
ولما عاد إلى مكة خوفًا من يزيد كان يكاتب عاتكة، وبينما معاوية ذات يوم
في مجلسه؛ إذ جاءه خصي له، فقال: يا أمير المؤمنين لقد سقط إلى عاتكة اليوم
كتاب فلما قرأته بكت، ثم أخذته فوضعته تحت مصلاها وما زالت خائرة النفس منذ
اليوم.فقال له: اذهب فالطف بها حتى تحتال على أخذ الكتاب. ففعل الخصي وأتى
بالكتاب وإذا فيه:
أعاتك هلا إذا بخلت فلا تَرَيْ ... لذي صبوة زلفى لديك ولا يُرقى
رردت فؤادًا قد تولى به الهوى ... وسكنت عينًا لا تملُّ ولا ترقا
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يومًا منك جودًا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفًا ... صريعًا بأرض الشام ذا جسد ملقى
وليس صديقي يرتضى لوصية ... وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلاً ... فطول نهاري جالس أرقب الطرقا
فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
رأيتك تزدادين للصب غلظة ... ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا
فلما قرأه معاوية بعث إلى ابنه يزيد، فأتى ووجده مطرقًا فقال له: ما هذا
الأمر؟ فقال: أمر أقلقني وأمضني وما أدري ما أعمل في شأنه. قال: وما هو؟
قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية فما
ترى فيه؟ قال: الأمر هين، عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه.
فقال معاوية: أفٍ لك، والله إن تقتل رجلاً من قريش هذا حاله صدَّق الناس قوله،
وجعلونا أحدوثة أبدًا. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها
أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به. فقال:
ما هي؟ فأنشد:
ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهل ... وما كان من يَلْحى محبًّا له عقل
لقد كان في حولين حالا ولم أزر ... هواي وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغل
حمى الملك الجبار عني لقاءها ... فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل
فوا كبدي إني اشتهرت بحبها ... ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجبًا أني أكاتم حبها ... وقد شاع حتى قطعت دونها السبل
فقال معاوية: قد والله رفهت عني؛ لأني أرى أنه يشكو عدم الوصل فالخطب
فيه يسير، قم عني. فقام يزيد، وحج معاوية في تلك السنة، ولما انقضت أيام الحج
كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعراءهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم
ففرق الصِّلات الجزيلة، فلما قبض أبو دهبل صلته وقام ينصرف، دعا به معاوية،
فرجع إليه فقال له: يا أبا دهبل، ما لي رأيت يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه
عنك، وشعر لا تزال تنطق به، وأنفذته إلى أخصامنا وموالينا؟ فطفق أبو دهبل
يعتذر ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك
عندنا فهل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة. قال:
زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار أخرى. فلما قبضها، قال:
إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق
مني فقد أبحت به دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق ألبتة. فسُرَّ معاوية بذلك،
وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، وانصرف إلى
دمشق، قالوا: ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا لأجل ذلك.
(المنار)
في القصة فوائد لمن يتأمل ويستفيد منها حرية العرب، وتساهلهم في العشق
وغيره مع أولادهم وغير أولادهم، وفي لوازمه ما لم ينتهك العرض وتُلْمَس العفة
وتبتذل الصيانة على أن العشق والعفة لا ينفكان في قرن كما سنبينه، ألم تر إلى
معاوية كيف أجاب يزيد حين قال له: إن أبا دهبل يقول في ابنتك:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون
بقوله: لقد صدق يا بني إنها لكذلك. ثم لما قال له: إنه قال: (ثم خاصرتها)
البيت: قال لقد كذب. ألم تر أنه لم يعاتب ابنته، ولم ينصحها؛ لأنه يعلم أن العشق
طور من أطوار النفس يغري به العذل والتثريب، ولا ينجع فيه الوعظ والتأديب؟
ألم تر أنه قال لأبي دهبل: (أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأني أعلم صيانة
ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب) ... إلخ.
ومنها الطريقة المثلى في تربية الفتيان والفتيات في طور العشق والحب، إذا
علم الجاهل الأخرق أن ولده عشق وساءه ذلك وخشي مغبته يبادر إلى إطفاء لوعته
باللوم والتعنيف، والعذل والتوبيخ، وذم المحبوب، وانتحال المثالب والعيوب،
وما هذا اللوم إلا عين الإغراء، وما ذلك الإطفاء إلا إضرام وإذكاء.
كالذي طأطأ الشهاب ليطفى ... وهو أدنى له إلى التضريم
والعليم الحليم يبادر إلى قطع الصلات، وإبطال المعاملات، بخفي العمل،
ولطائف الحيل، كما فعل معاوية في إخراج أبي دهبل من الشام أولاً، ثم في
تزويجه وإكرامه بحيث ألجأه إلى أن يعطي العهد من نفسه على ترك التشبيب
بعاتكة، ويؤيد ذلك بإبانة زوجه وإباحة دمه من غير أن تعلم عاتكة بذلك.
ومنها: الفرق بين حلم معاوية، وسفه يزيد وميله إلى الظلم وسفك الدم،
وكيف صده أبوه عن اغتيال أبي دهبل بقوله: إن في ذلك إثباتًا للتهمة واشتهارًا
بالفضيحة، ولم يأته من قبل الدين وحرمة الدماء المعصومة، والظاهر أنه كان يعلم
أن ما قاله له هو الذي يؤثر فيه.
ومنها: الحرية العامة عند العرب يومئذ، فقد كانوا يتغنون بشعر يشبب فيه
ببنت أمير المؤمنين من غير مؤاخذة ولا نكير، ولا توقع مؤاخذة، ولا خوف
عقوبة.
ومن وجوه الاعتبار: الفرق بين عظمة الملوك وتجبرهم اليوم، وبساطتهم
يومئذ.
***
العشق والعفة
العشق - كما قلنا - حليف العفة وقرينها، وحب الفساد المقلوب لا يسمى
عشقًا، وقد كان أبو دهبل عفيفًا نزيهًا، وعاتكة أعف وأنزه، روي أنه خرج يريد
الغزو فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتابًا فقالت له: اقرأ لي هذا الكتاب.
فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرًا، ثم خرجت إليه فقالت: لو تبلغت القصر فقرأت
الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله؛ فإنه من غائب لها يعنيها أمره. فبلغ
معها القصر، فلما دخلا إذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر، وإذا فيه امرأة
وضيئة، فراودته عن نفسه، فأبى فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وكان يُطعم
ويُسقى قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: لا يكون ذلك أبدًا؛
ولكني أتزوجك. قالت: نعم. فتزوجها، فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه
نفسه، فأقام معها زمانًا طويلاً لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله وولده، وتزوج
بنوه وبناته، وتقاسموا ماله، وأقامت زوجه تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم
ماله، ثم إنه قال لامرأته الجديدة: إنك قد أثمت فيَّ وفي ولدي وأهلي، فأذني لي
أطالعهم وأعود إليك. فأخذت عليه أيمانًا أن لا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، فخرج
من عندها بمال كثير حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجه وما صار إليه ولده،
وجاء إليه ولده فقال: والله ما بيني وبينكم عمل، أنتم قد ورثتموني وأنا حي، فهو
حظكم، والله لا يشرك زوجي فيما قدمت به أحد، ثم قال لها: شأنك به فهو لك كله.
ولما حان الأجل وأراد الخروج إلى الجديدة جاءه خبر موتها فأقام.
ومن حديث العفة وأخبار أبي دهبل أنه كان يهوى امرأةً جزلةً يجتمع إليها
الرجال للمحادثة وإنشاء الشعر، وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع
إليها، وكانت هي أيضًا محبةً له، وكانت توصيه بحفظ ما بينهما وكتمانه، فضمن
لها ذلك، واتصل الوداد بينهما، فوقفت عليه زوجه وكانت غيورًا عليه، فدست إلى
عمرة امرأة داهية من عجائز قومها، فجاءتها فحادثتها طويلاً، ثم قالت لها في عرض
حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين بأبي دهبل مع ما بينكما؟ قالت: وأي
شيء يكون بيني وبين أبي دهبل؟ فتضاحكت وقالت: أتسترين عني شيئًا قد تحدثت
به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل الحجاز في أسواقها، والسقاة في مواردها؟
فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه. فوثبت عمرة عن مجلسها، واحتجبت، ومنعت
كل من كان يجالسها من المصير إليها، وجاء أبو دهبل على عادته فحجبته، وأرسلت
إليه بما كره، فقال في ذلك شعرًا كثيرًا منه:
يلومونني في غير ذنب جنيته ... وغيري في الذنب الذي كان ألوم
أَمِنَّا أناسًا كنت تأتمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا
وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثروا ... علينا وباحوا بالذي كنت أكتم
ومنها البيت التي يتمثل به وهو:
أليس عجيبًا أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاوٍ ولا نتكلم
ويروى (أليس عظيمًا) ومن شعره اللطيف في ذلك:
تطاول هذا الليل ما يتبلج ... وأعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
وبت كئيبًا ما أنام كأنما ... خلال ضلوعي جمرة تتوهج
فطورًا أمنّي النفس من عَمْرَةَ المنى ... وطورًا إذا ما لج بي العشق أنشج
لقد قطع الواشون ما كان بيننا ... ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
أخطط في ظهر الحصير كأنني ... أسير يخاف القتل ولهان مفلج
فانظر كيف أن عمرة ما كانت ترى مجلسها معه ومع الأدباء لامسًا للعفة، ولا
ماسًّا بالصيانة، حتى علمت أن الناس يتحدثون بأن الأمر خرج عن المعتاد،
ويرون أن لها شأنًا مع بعض الأفراد، فضربت دون زوارها الحجاب، ومنعت
الهوى أن يدخل عليها من الطاق أو الباب، وكان بنو جمح يزعمون أن أبا دهبل
تزوج بعمرة، ويزعم غيرهم أنه لم يصل إليها، ولم يزن هو ولا هي بكلمة قبيحة.
كان أبو دهبل من سادات بني جمح وأشرافهم، وكان جميلاً ظريفًا وشاعرًا
عفيفًا، وكان يحمل الحمالات ويعطي الفقراء ويُقري الضيوف، ومات في سنة ثلاث
وستين.