للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسباب الحروب الروسية العثمانية

إن مقاصد أوربا في الممالك الشرقية عامة، والدولة العلية خاصة معلومة
للقراء، بل لم تعد تخفى على طبقة من طبقات الناس، وأشهر تَعِلاّتهم في الافتئات
على الدولة والتعدي على حقوقها الخاصة حماية النصارى، ووقايتهم من الظلم رغبة
في إصلاح شؤونهم، وشغفًا بالإصلاح العام، وكان من تقاليد الروسية التي وضعها
بطرس الأكبر أنه يجب أن لا تمر عشرون سنة من غير حرب تضرم نارها بأسلوب
من أساليب تلك التعلة؛ ولكن القيصر الحالي والقيصر الذي قبله علما أن غنائم
الحرب غالية الثمن، مغبون فيها الغالب والمغلوب، فكانا قيصرا هدون وسلام.
ولقد جرت الحرب الأخيرة بين الدولتين على أصل تلك التعلة التقليدية،
وذلك أنها هزت سلاسل جمعياتها الدينية الثوروية السرية، فاهتزت، وحملتها على
إشعال نيران الثورة في بلاد الصقالبة ففعلت، فكان رجال الجمعية يضرمون النار
ويصيحون: الحريق الحريق، إن الدولة العثمانية متعصبة تحاول أن تحرقنا
وتجعلنا رمادًا. وأنشأ القيصر يتوجع لأوربا مما أثرت في وجدانه الشفقة والرأفة
وعاطفة الرحمة، يحرك أشجانها، ويخرج أضغانها، حتى أقنعها بأنه لا بد من
تأديب الدولة العثمانية بحرب، فأرادت الدول العظام أن تكون الحرب سياسية؛
لتكون منفعتها لهم عمومية، فأجمعوا كيدهم بعد تشاور في الأمر على أن يغتالوا
استقلال الدولة، ويفتئتوا عليها في إدارة بلادها الداخلية بأن يكون سفراؤهم
ووكلاؤهم وقناصلهم مسيطرين على الولاة والحكام في العاصمة وسائر البلاد،
وبذلك يمتلكونها من غير أرواح تزهق، ولا أموال تنفق، ولا سيوف تسل، ولا
نفوس تسيل.
فكان أولاً ما كان من مؤتمر الآستانة الباحث في فتنة البوسنة والهرسك
والبلغار وتقديم تلك اللائحة التي جاء في الفصل الرابع عشر منها ما نصه نقلاً عن
مجموعة الجوائب:
(تجري الإصلاحات بإعانة قوة كافية من العساكر حتى لا يقع اضطراب
ونظارة إجرائها تكون لجمعية مختلطة من الأجانب، وأعضاؤها يكلفون جمعية
أخرى لتلاحظ الإجراء من قريب، بحيث إنه في ظرف شهر من السنة يتم
الانتخاب والإدارة ونظارة الأحكام، واختلاط هذه الجمعية يكون من وكلاء الدول
العظام وأعضاء يرسلهم الباب العالي وأعيان النصارى، ويجوز أن تضم إلى ذلك
وكلاء أرباب ديون الدولة العثمانية، وتستعين هذه الجمعية المكلفة بالنظر والإجراء
بجمع من الضباط مركب من متطوعي الدول الحائدة تحت أمر الوالي الذي صرح
في الفصل الأول باشتراط كونه نصرانيًّا، لابسين لباس الترك؛ أي: كسردار
الجيش المصري وضباطه الإنكليز ومصروفهم على بيت مال الولاية، وهذا الجمع
من المتطوعين تؤيد به فرقة الضبطية الأهلية) اهـ.
ولقد كان رجال الدولة العلية يعرفون أن وكلاء الدول في تلك الولايات
سيكونون كما كانوا بعد في تكريت، فكان من البديهي أن لا يبيعوا استقلال دولتهم
لأوربا، وأن لا يعطوها إياها غنيمة باردة؛ ولذلك لم يقبلوا هذا، وما كان هو
المفضي للحرب حتمًا؛ ولكن المفضي إليها هو رفض البروتوكول الذي وقع عليه
وكلاء الدول الست في لندره القاضي على استقلال الدولة كلها قضاءً حتمًا، الذي جاء
فيه ما نصه نقلاً عن الجوائب أيضًا:
(قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي
يستفيد من هذه الفترة الحاضرة، فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها
تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة
والطمأنينة بأوربا، فإذا أخذت في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه
أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز، فمن رأي الدول والحالة
هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وعمالها في الولايات للمنوال الذي
ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى، ولم تحسِّن حال
رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق، وتكدر
موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا يوافق مصلحتها
ومصلحة أوربا عمومًا، ففي مثل هذه الحالة تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في
اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى، ولإبقاء السلم عمومًا)
انتهى المراد منه، ولم نذكر ما يتعلق بالولايات التي كانت ثائرة كالجبل الأسود
والصرب والبوسنة والهرسك ... إلخ، وليس وراء هذه المراقبة والسيطرة إلا أن
تحتل كل دولة ولاية تنفذ فيها الأحكام تنفيذًا؛ ولذلك قامت قيامة الدولة العلية عندما
بُلِّغت هذا البروتوكول.
أود أن أشرف على الغيب ساعة من زمان، فأعرف ما يجول في خواطر
القراء عندما يطَّلعون على هذه الجملة الوجيزة، وماذا يرتؤون من الصواب أن
تجاب به الدول، وليعلم من لم يكن عالمًا أن الدولة العلية كانت حينئذ مشتغلة بحشر
العسكر وتعبئة الجيوش مجاوبة للروسية، وأنها تعلم أن الحرب واقعة لا محالة إلا
أن ترضخ للدول صاغرة، وتسلم قيادها إليهن تسليمًا.
أليست الطريقة المثلى أن تقنع الدولة الدول بأنها عازمة عزمًا صحيحًا على
إصلاح عامّ تساوي فيه بين النصارى وغيرهم من رعاياها، وتقوم فعلاً بمبادئ
الإصلاح بصورة مقنعة؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيبهن بأنه لا يمكن لها أن
تساوي بين المسلمين والنصارى كما يوهمه كلام اللائم؟ وهل كانت تنجو بهذا من
الحرب؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيب مطالبهن وتحكِّمهن في استقلالها،
وتوليهن إدارة بلادها كلها أو بعضها؟ ذهبت جريدة مصباح الشرق الغراء إلى أن
وعد الدولة للدول بإجراء الإصلاح في رعاياها بالمساواة في الحقوق التي وضع لها
القانون الأساسي كان نزغة من نزغات مدحت باشا المضرة، وأن رفض مطالب
الدول أيضًا مما انفرد به هو ومن أغواهم كوكيل الأرمن، والصواب أن هذا
الرفض كان إجماعيًّا، وأن العلماء والصفتة كانوا أشد طلبًا للحرب ممن عداهم،
وأن مدحت باشا كان أشد توقيًا وتحريًا في الموضوع من سائر رجال الدولة كما
تنطق به المداولات التي وصفها المصباح بالأفن والخطأ والخطل، كما يُعلم مما
نورده في الجزء الآتي بيانًا للحقائق التاريخية، لا انتصارًا لمدحت ولا للذين
يسمون أنفسهم (رون ترك) فإن المنار معروف بمقتهم والرد عليهم منذ أنشئ.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))