للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسلمون في أفريقيا

قرأنا في جريدة الإكلير فصلاً طويلاً مدبجًا بيراع الموسيو أندره مافيل يتعلق
بأحوال مسلمي المستعمرات الفرنسوية وغيرهم من الوثنيين القاطنين في تلك
الأراضي.
وقد خبط هذا الكاتب خبط عشواء في بعض المسائل الإسلامية ظنًّا منه أن
عقيدة المسلم الأبيض تختلف عن عقيدة المسلم الأسود، وحيث إنه أجنبي عن الدين
الحنيف فلا لوم عليه إذا غلط في بعض أموره؛ وإنما اللوم عليه في تعرضه لما لا
يعنيه ولما لا معرفة له به، ونحن نأخذ من كلامه بعض فقرات؛ ليعلم القارئ اللبيب
ما وصلت إليه أحوال الإسلام في أفريقيا الفرنسوية.
قال: إن المسألة الإسلامية تهم جدًّا مستقبل أفريقيا الفرنسوية؛ ولذلك يتعين
علينا النظر فيها بكل تدقيق والبحث عن شؤونها إفرادًا وإجمالاً.
ولا ريب أن الإسلام انتشر منذ عدة سنين انتشارًا عظيمًا في مستعمراتنا في
أفريقيا، فإذا ذهبت إلى هناك أخبرك الأهالي أنه منذ عشر سنوات كانت الناحية
الفلانية والمقاطعة الفلانية تعبد الأوثان، أما الآن فقد صار الجميع مسلمين، ولا
ريب أن تقدمًا مثل هذا يجب الاعتناء به والنظر إليه، وإذا نظرنا إلى حال الوثنيين
فلا نجدهم إلا أقوامًا سقطوا في هوة البهيمية؛ لأنهم لا خلاق لهم، وليس فيهم من
اشتم رائحة المدنية إلا الذين كانوا في البلاد الواسعة التي انتشرت فيها الوثنية (كذا)
مثل الأشانتي , والداهومي، ولسوء الحظ فإن مدنيتهم ممزوجة بعادات بربرية
وأمور وحشية مثل ذبح البشر، وتقديمهم ضحايا للأوثان.
على أن مدنية هؤلاء الأقوام لا يمكن بوجه من الوجوه أن تقاس بمدنية الإسلام
في وادي النيجر؛ فإنها لمعت كالشهب وأنارت أفكار أصحاب هذا الدين وأخرجتهم من
هوة الخشونة التي كانوا فيها قبل أن يعتنقوا هذا الدين الإسلامي، فإذا تقرر أن
العنصر الإسلامي هو من العناصر الموجبة للحضارة والمدنية، فيتعين علينا أن لا
نجعل في سبيل تقدمه العثرات، ولا أن نعارضه في شيء، وعلى فرض أننا قصدنا
معارضته والوقوف دون تقدمه فإن جميع مساعينا تذهب سدى؛ لأنه يستحيل علينا أن
نقف دون أمواجه العظيمة المتعالية كالجبال والمتدفقة كالسيول، وعندي أننا إذا
حاولنا ذلك كنا غير عادلين من جهة مسلمينا السودانيين لا سيما إذا أسأنا فيهم الظن؛
لأننا نراهم من أشد رعايانا خضوعًا، ومن أعظمهم غيرة وحمية، أما رأيتم كيف أن
السنغاليين الذين هم من أخلص رعايانا وأتباعنا فتحوا بإرادتنا غربي السودان؟ أليس
هؤلاء القوم من المسلمين الذين استلمنا زمام أمورهم، وجعلناهم فرنسويين مثلنا؟
ولما حاربنا رباحًا أتوا بأعمال خطيرة، وأبلوا بلاء حسنًا، مع أن رباحًا وجماعته من
المسلمين مثلهم، ومن كان في ريب مما نقول فليسأل القومندان جانتيل عن حسن
سلوكهم، وصدق إخلاصهم، وما أبدوه من دلائل الشهامة والغيرة، ولا أظن أن
أولياء أمورنا يحاولون نشر المسيحية في أفريقيا؛ لأن هذه الديانة لا سوق لرواجها
هناك، وإننا في تلك البلاد في موقف مشرف على ثلاث ديانات: الإسلامية،
والمسيحية، والوثنية، والغلبة في ذلك للإسلامية، ولا أمل لي أن الوثنيين يتقدمون
في مستعمراتنا الإفريقية؛ فإن تمدنهم امتزج بالمسكرات، وما رأيت في حياتي شعبًا
ابتلاه الله بالمسكرات مثل هذا الشعب الدنيء، فقد رأيت أفرادهم في بمبوك ,
ومالنكس يشربون أقداح الأبسنت القتالة كما نشرب نحن الحليب، وذلك مما تقشعر
منه فرائص الإنسانية.
أما في شاطئ العاج فالمسكر شائع بين أهل الوثن الذين يصرفون منه كميات
وافرة، ومن النادر أن لا ترى عند الوثنيين ميلاً لأكل البشر، ففي الكنج يفاخرون
بأكل الناس، وهذا الأمر شائع وذائع هناك رغمًا عن حلول عساكرنا، ورغمًا عن
أوامرنا ومقاومتنا لمثل هذه العادات القبيحة، وأنا أراهن بأنك لا تمشي نحو ٥٠
كيلو متر عن بلدة ليبرفيل حتى تشاهد أكل لحوم الناس شائعًا، فلا تكاد تدخل بيتًا
من بيوت الوثنيين وتكشف الأغطية عن طواجنه في المطابخ حتى تراها ملأى
باللحوم البشرية التي تعد عشاء للعيلة، ومثل ذلك يقال في الشعوب الساكنة في
جهات جنوب السودان على حدود ليباديا مما لا يمكن الإقلاع عنه إلا بعد مر السنين
الطوال.
أما أنا فعندي أن أعظم شيء تخفق له القلوب جزعًا وحنانًا مرأى البشر
يذبحون ضحايا للأوثان بسيوف الجهالة والحمق تبعًا لعادات قبيحة، يتعين علينا
إبطالها مهما كلفنا أمرها، وهذه العادات ناشئة عن اعتقاداتهم الدينية وعقولهم
القاصرة، فالمالنكس مثلاً وهم قبائل وثنية لا يعتقدون بشيء إلا بالشيطان، فهم
يقولون: إنه قادر على كل شيء، وعندهم أن هذا الخبيث؛ أي: الشيطان يترصدهم
ويراقب أعمالهم وحركاتهم، فهو يكمن أحيانًا بين الأدغال، وفي الجبال ويطوف
فيها، ويختبئ أيضًا في الجنائن والبيوت، وفي الليل يخرج منها ويطوف لأجل الأذى
والأعمال الفظيعة، والوثنية في شاطئ العاج والداهومي منشورة جدًّا، وأهلها
يعبدون الوجوه الممسوخة وتماثيل الحيوانات، وفي أحد الأيام كنت بينهم، فكان ذلك
اليوم أثقل على قلبي من عبادة الوثن؛ فإني شاهدت الأهالي يصبغون وجوههم بلون
أصفر احترامًا لأصنامهم، وكان ذلك اليوم عيدًا عندهم، أما عندي فكان يوم بؤس،
وكل أهل الوثن يتطيرون بالنحوس، وعندهم أن الإنسان غير مخير في عمله، فهو
يرتكب أعظم الفظائع بما قدرته عليه آلهته.
أما الدين الإسلامي الذي نحسبه بعيدًا عنا وننفر منه بحكم العادة، فيجب علينا
اعتباره وإنزاله في منزلته؛ لأنه دين يعلم أصحابه عبادة الله تعالى، وله جاذبية
تستميل الناس إليه، فهو إذن مالك زمام أفريقيا بأسرها، وعدا عن ذلك فإن كيفية
التدين فيه لها عند شعوب أفريقيا احترام عظيم لو نظرناه - نحن الإفرنج - لما مكثنا
غير مكترثين به، إلى أن قال: فيجب علينا والحالة هذه أن نعيش بما أمكن من
المسالمة وحسن المجاملة مع أهل الإسلام، وأن نحترم دينهم فإنهم يسرّون منا
سرورًا عظيمًا، ولو راجعنا أغلاطنا الماضية منذ فتحنا أفريقيا علمنا حق العلم بأننا
كنا غير عادلين مع المسلمين، ولا ريب أن الاستمرار على عدم العدل يقوض
أركان ملكنا في تلك البلاد، على أن الدين الإسلامي وتعاليمه ليست من التعاليم التي
تهددنا بالخطر والخوف، فإن المسلم رقيق الجانب، أنيس المعشر، يبدي سلامه
بلطف وابتسامة، فهو في كل الوجوه أفضل من سواه، وإننا لنخطئ جدًّا إذا اعتقدنا
بأن هؤلاء المسلمين ينهضون يومًا لأجل الجهاد بقتالنا، فقد مضى في أفريقيا
الغربية زمن الحاج عمر ومحمد وغيرهما.
هذا بعض مما قاله هذا الكاتب المجيد، وقد قابل في آخر كلامه بين الإسلام
والمسيحية، وأظهر أن نشر الإسلامية هناك أسهل بكثير من نشر المسيحية، ثم
ختم كلامه بحض أهل البعثات المسيحية على الذهاب إلى البلدان الوثنية لأجل
إدخال العقائد المسيحية في عقولهم، وقد أبدى للمبعوثين ملاحظات كثيرة، ونبههم
إلى أن لا يدخلوا البلدان الإسلامية؛ لأنه يستحيل أن مسلمًا يخرج من دينه ليعتنق
دينًا آخر اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت