للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهات المسيحيين على الإسلام

اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات
النصرانية في الطعن بدين الإسلام، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه
في مطالعة تلك الكتب، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات؛ لأن المدافعة
عن الدين أهم ما أنشئ له المنار؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي
مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين، بل السعي في إزالة الأحقاد،
والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا
كتابة؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون؛ ولذلك نراهم
يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام، وينشرون الجرائد (كراية صهيون)
ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي، وإننا نصبر على هذا التعدي، ونكتفي بكشف
شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول:
إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين، كيف اكتفى بمطالعتها من
غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا
دافع له، ككتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الصقيل) وغيرها؟ فأول
جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين
كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة؛ لأن الجريدة
التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها؛
لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته، ثم إن شبهاته
تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
(أحدها) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود
والنصارى.
(ثانيها) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب، وإن تعجب،
فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له،
فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه؟ ! !
(ثالثها) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع، أو لما ثبت في
العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث،
وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به، ونبدأ الجواب
بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول:
إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا
لدعاة النصرانية، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم، ولعمري إنه لا تقوم على
ذلك حجة إلا شهادة القرآن، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان
موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة، وهذه الشهادة شبهة على القرآن؛ لأنها
شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه، بل يشهد هو ببطلان نفسه،
أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض، وأما شهادة العقل والعلم
والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها، وإذا أراد السائل أن
يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها
من الكتب التي ألفها علماء أوروبا، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين.
وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن، فهو أن التوراة
التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام، لا كتاب تاريخ مقتبس من
ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم
الآثار العادية له، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه، ولا تاريخ طبيعي فنبالي
بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب،
وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) ،
فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان
ونحو ذلك، فالتوراة حق، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن
بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ} (المائدة: ٤٤) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي
منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل،
وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين
القرآن وكتاب حزقيال وأشعيا ودانيال وغيرهم؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها
القرآن.
ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة، فذلك اصطلاح جرى
على سبيل التغليب، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين
العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة.
وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح
عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس،
وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من
التاريخ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله، وأنت تعلم أن
النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً، ويعترفون بأنها كُتبت بعد
المسيح بأزمنة مختلفة، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها.
والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من
الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي،
كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه، تقول: كان فلان يقرأ القرآن، ومثل
هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام
نزوله.
ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا
شبهة، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها
بالتاريخ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ؛ أي: عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم؛ وذلك لأنه
ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها، وبين ما مُزج بها في
التأليف، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج
وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة؛ لأنها إن لم تكن هي
فأين هي؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى
وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من
الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها
القرآن نقطع بكذبه ولا غرو، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون، وهو معنى قوله
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: ٤٨) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي، وإن كان للسائل
شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار،
ويأخذ الأجوبة الشفاهية؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم، ولولا أن فقهاءنا
يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل
لما كتبنا شيئًا مما كتبنا؛ لأننا خطباء وفاق ووئام، وطلاب مودة والتئام، ولكن ديننا
أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه، وطلب أن يجاب في المنار فتعين
علينا ذلك.