للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المحاورة السابعة بين المصلح والمقلد
الاجتهاد والوحدة الإسلامية
قد كان كلام الشاب المصلح في المجلس الماضي مؤلمًا للشيخ المقلد؛ لأنه لم
يكن في حسبانه أن يتعدى البحث إلى ما تعدى إليه، فلم يغب إلا يومًا واحدًا راجع
فيه الآيات والأحاديث التي أوردها الشاب في الاستدلال على مقدماته، وعاد في
مساء اليوم الثاني وملامح الامتعاض والتبرم بادية على وجهه وقال في أول كلامه:
المقلد: لقد اهتديت إلى ما يبطل رأيك في أن الاختلاف في المذاهب كان
سببًا في ضعف الأمة، وهو أن المذاهب كانت أيام كانت الأمة في ريعان شبابها
وكمال قوتها، وكذلك نرى الأمم الأوربية في قوة وبأس شديد وهي مختلفة في الدين
ومتفرقة إلى مذاهب، وإذا بطل هذا الرأي تبطل نتيجته وهي الوحدة في الدين
على رأيك، ونكفى مؤنة الخوض في ذلك وما تبعه من فتح باب الاجتهاد الذي
يؤدي إلى تطويل، وقال وقيل، فقد راجعت الآيات والأحاديث التي ذكرتها في
مجلسنا الماضي، وظهر لي وجوه للنزاع في دلالتها على مرادك فهل لك في إقفال
هذا الباب؟
المصلح: من شأن المرض أن يطرأ في إبان الصحة، وكم من مرض تتولد
جراثيمه في طور الحداثة أو الشباب، فتدافعها قوة المزاج زمنًا، ثم تتغلب عليها
في طور آخر، إما بنفسها وإما بمساعدة جراثيم مرض آخر، وهذه القاعدة مشاهدة
في الأشخاص عند علماء الطب، وفي الأمم عند علماء الاجتماع، وإن شئت
فصَّلت لك القول في هذا تفصيلاً، ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني ذلك؛ فإن
فتنة التتار التي هي أشد صدمة زلزلت القوة الإسلامية، لم تكن إلا بسبب تعصب
الشافعية والحنفية، وأما أوربا فقد أخذت حظها من ضعف التفرق في الدين أيام
كانت تُحَكِّم الدين في السياسة، وقد عالجت هذا الضعف بالفصل بين السياسة
والدين، فليس له الآن شأن في سياستها وأحكامها إلا الاستعانة بدعاته على
الاستعمار في الشرق وأفريقيا، وما زال رجال السياسة يطاردون رجال الدين،
ويغضون من صوتهم في عدة ممالك، أما قرأت في الجرائد ما حصل أخيرًا في
أسبانيا وفرنسا وغيرهما؟ فهل يروق في نظرك أن تحذو الحكومات الإسلامية في
هذا حذو الحكومات الأوربية؟ أما أنها ستفعل ولو بعد حين إلا أن تبادروا وأنتم
رجال الدين بالإصلاح الديني الذي تسير به سنن الشريعة على سنن الطبيعة؛ فإن
الله أقام سنن الطبيعة بالاضطرار عنا، ووكَّل إلينا إقامة سنن الشريعة بالاختيار منا
فإذا لم نوفق باختيارنا بين السنتين يثبت الاضطراري، ويبطل الاختياري {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا
مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣٠-٣٢) ففي هذه الآيات الكريمة أهم أركان الإصلاح الديني الذي نطلبه
وكما لاحت لك وجوه للمناقشة في مقدماتي السابقة - بعد انصرافك من مجلسنا
السابق - لاحت لي أيضًا مسائل ومقدمات أخرى إذا أذنت لي سردتها عليك.
المقلد: قد عِيل صبري من المقدمات والمناقشات فيها، وأحب أن أقف على
مقصدك أولاً، فاذكره لي وانتظر في سائر مسائلك المناسبات.
المصلح: أحسن علماء المناظرة صنعًا باصطلاحهم على ترك البحث عن
مقدمات الدلائل لما يستلزمه من انتشار البحث وذهابه إلى غير غاية، وأحب أن
تسمح لي بذكر مقدمتين ذهلت عنهما في مجلسنا السابق ولا بد منهما وهما:
(المقدمة العاشرة) : إن الشارع لم يسلك في بيان الأحكام الدينية مسلك
الفلاسفة وعلماء النظر في وضع الحدود الجامعة المانعة لمسائل علومهم؛ وإنما بيَّن
الأحكام العملية بالعمل، وما بيَّنه بالقول وكَّله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم، ولذلك
قال: الحلال بيِّن والحرام بيِّن. وما احتيج في العمل به إلى اجتهاد ورأي وكَّله إلى
اجتهادهم ورأيهم كاستقبال القبلة في السفر، وكان الصحابة والتابعون على هذا حتى
حدثت المذاهب، فأخذ بعض المجتهدين بإطلاقات الشارع في بعض الأحكام،
ووضعوا الحدود والتعريفات المنطقية للبعض الآخر، وكان هذا التحديد أعظم
أسباب الخلاف في المذاهب؛ ولكن لم يلزم أحد من الأئمة بأن يأخذوا بتحديده ولم
يحكم بخطأ من خالفه فيه لعلمهم بأن الشارع فوَّض ذلك إلى أفهام الناس، ووسَّع
الأمر فيه توسيعًا، وأنه لو سلك مسلك الفلاسفة في التحديد لأوقع الناس في الحرج،
ولما صح أن يكون دينه دين الفطرة، ولا أن يكون عامًّا، ولا أن يظهر في أمة
أمية، ولا أن توصف شريعته بالحنيفية السمحة، بل كان دينًا خاصًّا بطائفة من
أهل الفلسفة النظرية، وهكذا جعله علماء المسلمين بعد الصدر الأول، إذا تكلموا
في توحيد الله تعالى يذكرون الكم المتصل والكم المنفصل، ويذكرون الجوهر
والعرض والدور والتسلسل، وإذا تكلموا في الأحكام يذكرون الحدود الجامعة المانعة،
ويكثرون من التقسيم واختراع الأقسام الفرضية التي تمضي الأعمار ولا تقع، بل
يذكرون المحال أيضًا، حتى قال بعض علماء الحنفية: يحتاج من يريد أن يكون
فقيهًا حنيفيًّا إلى الانقطاع لمدارسة الفقه عشرين سنة على الأقل. وأنت تعلم أن هذه
المدة هي مدة التشريع، وفيها نزل الدين كله عقائده وأخلاقه وآدابه وسياسته
وإرادته وأحكامه، ولم تكن المدة كلها ولا عُشْرها مصروفة لبيان الأحكام الظاهرة
التي يسمونها الآن فقهًا.
ويشهد لهذه القاعدة إجازة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المختلفين في فهم
إطلاق النصوص فيما يتعلق بأعمالهم الشخصية، روى النسائي عن طارق (أن
رجلاً أجنب، فلم يصلّ فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:
(أصبت) فأجنب رجل فتيمم وصلى، فأتاه فقال نحو ما قال للآخر (أصبت) .
وروى البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في
القوم: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك
بالصعيد فإنه يكفيك. وأجاز عمرو بن العاص فيما فهم من قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: ١٩٥) من جواز التيمم للجنب إذا خاف على نفسه
من البرد. والمروي عن عمر وابنه وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم. لأنهم كانوا
يفهمون من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: ٤٣) أنها الجس باليد،
والآثار في هذا كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك عن التابعين والأئمة
المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين.
كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى الوضوء من الفصد والحجامة والرعاف
فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال:
كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان الإمام مالك أفتى
هارون الرشيد بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى
خلفه الإمام أبو يوسف ولم يعد، واغتسل أبو يوسف في الحمام، وبعد صلاة الجمعة
أخبر أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل
المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا. والفقهاء من المتأخرين يُرْجِعُون هذا إلى
قواعدهم المنتزعة كجواز التقليد بعد الوقوع، ومنهم من يؤول ذلك بتغير الاجتهاد
ولو ساعة من زمان، ومن ذلك خلافهم في أن العبرة برأي المأموم، وأنت تعرف
هذا تفصيلاً فلا حاجة إلى الإطالة به.
(المقدمة الحادية عشرة) : إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة
وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله تعالى على الوجه الذي بينه وارتضاه،
والقواعد العامة للمعاملات بين الناس كحفظ الدماء والأعراض والأموال، وكل هذه
الأصول قد كملت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل عليه في حجة
الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) فأما العقائد والعبادات فقد كملت بالتفصيل بحيث لا تقبل الزيادة ولا
النقص، ومن يزيد فيها أو ينقص منها فهو مغير للإسلام وآتٍ بدين جديد، وأما
أحكام المعاملات فبعد تقرير أصول الفضائل كوجوب العدل في الأحكام والمساواة
في الحقوق، وتحريم البغي والاعتداء والغش والخيانة وحد الحدود لبعض الجرائم،
وبعد وضع قاعدة الشورى فوَّض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر
من العلماء والحكام الذين يجب شرعًا أن يكونوا من أهل العلم والعدل يقررون
بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان، وكان الصحابة عليهم الرضوان
يفهمون هذا من غير نص عليه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يُعلم من
حديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، فإنه هو الذي قال ابتداءً أنه يحكم برأيه فيما
لا يجد فيه نصًّا في الكتاب ولا في السنة، وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
بل نقل أنهم كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به، وإن خالف السنة
المتبعة كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة، لا بجزئيات الأحكام
وفروعها، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد
استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. ومن قضاء النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما قال: طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: طلقتها ثلاثًا، قال: (في
مجلس واحد) قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) فراجعها.
والشواهد على هذا كثيرة، والحنفية لاحظوا هذا، فقدموا القياس الجلي على خبر
الواحد، والرأي الذي يسمونه الاستحسان مقدم عندهم على القياس والمراد
بالاستحسان ما ثبت أن فيه المصلحة للأمة، هكذا أفهمه خلافًا لما قاله المتأخرون من
فقهائهم: إنه قياس خفي. وإنما قالوا هذا؛ فرارًا من تشنيع المحدثين وسائر العلماء
عليهم بزيادة أصل في الدين، وبتقديم الرأي على السنة، ولو كان قياسًا لما شنعوا
عليهم بالرأي، ولما صح تقديمه وهو خفي على القياس الجلي، وكان الأولى أن
يحتجوا عليه بعمل عمر وإجازة الصحابة له رضي الله تعالى عنهم.
المقلد: لا أستطيع السكوت لك على هذه، فقد غلوت فيها غلوًّا كبيرًا، وقد
أوَّل الفقهاء حديث عمر رضي الله عنه وأجابوا عنه بعدة أجوبة، قال العلامة
السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ، فكانوا أولاً يصدقون في إرادة
التأكيد لديانتهم، فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع
الثلاث. وأجاب ابن حجر وغيره بأن الأحسن أن يقال: إنه ظهر لعمر ناسخ.
المصلح: لِمَ لَمْ تذكر رد ابن حجر على السبكي وأنت مطلع عليه؟ أتريد أن
تختلبني بكثرة التأويل؟ ألم يرد عليه بأن مذهبهم تصديق مدعي التأكيد وإن بلغ في
الفسوق ما بلغ؟ وأما قولهم باحتمال الناسخ فينافيه لفظ (فلو أمضيناه عليهم) ؛ لأنه
صريح في أنه رأي واجتهاد كما يدل قول ابن عباس في أول الحديث، على أن الحكم
الأول كان سنة متبعة، أو إجماعًا لا خلاف فيه، وأصرح منه في هذا حديث
طاووس عند أبي داود والبيهقي، وهو أن رجلاً يقال له: أبو الصهباء. كان كثير
السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن
يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر
وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: (بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل
أن يدخل بها جعلوها واحدة، إلى أن قال: فلما رأى - أي عمر - الناس قد تبايعوا
فيها قال: أجيزوهن - أي الثلاث - عليهم) ، فقولهما: (جعلوها) دليل على أنه
إجماع، وقول عمر: (أجيزوهن) يفيد أنه اجتهاد منه كما تدل عليه أيضًا عبارة
السبكي، ولا التفات إلى التقييد بغير المدخول بها لجواز أن السؤال لواقعة كانت
كذلك، بدليل حديث ركانة في المدخول بها، وإطلاق الحديث الصحيح، وما زعمه
بعضهم من أن حديث طاوس لا يدل على أن الجاعل هو النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم، وأنه يحتمل أن ذلك لم يقع إلا في الأطراف النائية فيجتهد فيها من
أوتي علمًا، فهو زعم سخيف واحتمال ضعيف؛ لأن اللفظ يأبى قبوله، وحديث
ركانة يقوض أركانه وأصوله، وليس عندهم لفظ أظهر في دعوى الإجماع منه.
المقلد - بحدة وغضب -: هل أداك اجتهادك إلى القول بأن عمر رضي الله
تعالى عنه قدم رأيه واجتهاده على السنة والإجماع؟ لقد راودتني نفسي أن أترك
الكلام معك؛ ولكن لا بد لي من سبر غورك، واستخراج كل ما في صدرك،
والوقوف على ما تتخيله من الإصلاح في الدين، وجمع كلمة المسلمين، وما أرى
هذا الإصلاح إلا نار سعير، سيكون لها فتنة في الأرض وفساد كبير.
المصلح وادعًا ساكنًا: استوقف سربك، واستفت قلبك، واترك المقلدين
المؤولين سدى، وافتح عينيك تجد على النار هدى، واعلم أنني لم أقل عن عمر من
نفسي شيئًا، وإنما هو قول ابن عباس الذي صحت روايته وأخذ به الأئمة الأربعة
وغيرهم، وأما تأويل الفقهاء فسببه أنهم وضعوا أصولاً وقواعد أسندوها إلى أئمتهم،
وحكَّموها في الكتاب والسنة وهدي الصحابة كأنها فروع لأصولهم، والأمر عندي
بخلاف ذلك، وكذلك كان عند الأئمة رحمهم الله تعالى، وما أكثر هذه الأصول إلا
قواعد نظرية استنبطها الأصوليون من أقوال أئمتهم، وطبقوها على مذاهبهم إلا ما
نُقل عن الإمام الشافعي الواضع الأول للأصول، ويعجبني ما قاله العلامة ولي الله
الدهلوي في هذا المقام.
المقلد: قله لي إن كان مختصرًا، وأرشدني إلى الكتاب الذي يوجد فيه إن
كان مطولاً.
المصلح: إنه مختصر وأخذ رسالة من مكتبته وقرأ ما نصه:
(واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة
والشافعي رحمهما الله تعالى على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه؛
وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم، وعندي أن المسألة القائلة بأن
الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن
لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب
الرأي، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلاً، وأن موجب الأمر هو
الوجوب ألبتة، وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها
رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما
يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي وغيره - أحق من
المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه.
مثاله: أنهم أصلَّوا أن الخاص مبيِّن فلا يلحقه البيان، وخرَّجوه من صنيع
الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: ٧٧) ، وقوله صلى الله
عليه وآله وسلم: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)
وحيث لم يقولوا بفرضية الاطمئنان لم يجعلوا الحديث بيانًا للآية، فورد عليهم
صنيعهم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: ٦) ومسحه صلى الله
عليه وآله وسلم على ناصيته حيث جعلوه بيانًا، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا} (النور: ٢) الآية، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (المائدة: ٣٨) الآية، وقوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: ٢٣٠)
وما لحقه من البيان بعد ذلك، فتكلفوا للجواب كما هو مذكور في كتبهم، وأنهم
أصلَّوا أن العام قطعي كالخاص، وخرَّجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى:
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: ٢٠) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) حيث لم يجعلوه مخصصًا، وفي قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (فيما سقت العيون العشر) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) حيث لم يخصوه به ونحو ذلك من المواد
ثم ورد عليهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: ١٩٦) وإنما هو
الشاة فما فوق ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكلفوا في الجواب، وأصلَّوا
أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي، وخرَّجوه من صنيعهم
في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم
بالأكل ناسيًا فتكلفوا في الجواب، وأمثال ما ذكرنا كثير لا يخفى على المتتبع،
ومن لم يتتبع لا تكفيه الإطالة فضلاً عن الإشارة) اهـ، وظاهر أن أكثر القواعد
إنما وضعت لتصحيح كلام الأئمة، وردَّ كل حزب على مخالفه والاعتذار عن ترك
العمل بالكتاب والسنة، فهذه هي أصول فقه مقلديك، فهل يصح أن نسلم بجميعها؟
المقلد: إن هذا الرجل عالم أصولي؛ ولكنه متعصب على الحنفية.
المصلح: هو حنفي الأصل؛ ولكنه أعمل نظره بالإنصاف، ولم يجمد على
التقليد الأعمى، فانفتح له باب العلم، فكان عالمًا أصوليًّا بصيرًا في دينه، ورسالته
هذه اسمها (الإنصاف في أسباب الخلاف) .
المقلد: كلما عزمت على ترك البحث في مقدماتك تجيئني بنغمة جديدة تفسخ
العزيمة، وقد طال المجلس فلا أسمح لك ولا لنفسي بكلام قبل بيان مقصدك،
والإفصاح عن نتيجة مقدماتك بعد إبطال الثقة بعلمي الفروع والأصول، وهل هي
إلا الفوضوية الدينية التي قلت من قبل أنك لا تريدها.
المصلح: أريد أن يكون المسلمون على ما كان عليه أهل الصدر الأول في
زمن الراشدين الذين أمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتمسك بسنته
وسنتهم، والعض عليها بالنواجذ، وترك كل ما أُحْدِثَ في الدين مما يخالف
طريقتهم كما قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) الحديث، فأما العقائد فالقرآن برهان
على نفسه، وعلى رسالة من جاء به، ويضاف إليه سيرة النبي عليه السلام في
أخلاقه وآدابه وعلمه وعمله.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
ومتى ثبتت النبوة والقرآن فإننا نأخذ عقائدنا من القرآن من غير فلسفة فيها،
ونستدل عليها بالطريقة التي سلكها في الاستدلال؛ فإن الذين أرادوا معرفة الله
تعالى بالعقل وحده كفلاسفة اليونان زلوا وضلوا، وبهذا نفهم معنى كون الإسلام دين
الفطرة، وأنه لا يمكن أن يخالف في أحكامه أحكام الخليقة، ولا في سنته سنن
الطبيعة؛ لأن كلاًّ من الله تعالى كما تشير إليه الآية السابقة، ونعذر من خالفنا فيما
لا إجماع على أنه كفر لا يعد صاحبه من المسلمين حتى يفيء، وأما الأخلاق
والآداب فحسبنا ما في الكتاب والسنة من بنائهما على قاعدة الاعتدال ولا نلتفت إلى
إفراط بعض المتصوفة في الروحانيات والغلو في الزهد والتواضع والسخاء؛ حتى
انتهوا إلى الكسل والذل وإهانة النفس وتعذيبها والإسراف بإنفاق كل ما تصل إليه
اليد ونحو ذلك، فالقرآن ينادي بلسان عربي مبين بالأمر بالعمل وبعزة النفس
وكرامتها بالاقتصاد، كما لا نلتفت إلى تفريط بعض المتفقهة الذين لم يجعلوا للروح
حظًّا في عملهم.
وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق
حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم، وما
اختلفوا فيه منه كالجهر بالبسملة أو قراءتها ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه
وعدم ذلك، وكتكبيرات صلاة العيد فهو غير واجب، وإن عدَّ بعضه الفقهاء واجبًا
وهو على التخيير، فمن ترجح عنده شيء بدليل أو بموافقة لحاله أخذ به، ولا
يجب عليه البحث عن وجوه الترجيح؛ لأن اختلاف المسلمين فيه عملاً دله على أنه
ليس من ضروريات الدين وفرائضه، ولا يعيب من خالفه بما ترجح عنده من فعل
أو ترك؛ لأنه على التخيير، وما كان مثل صلاة العيد والوتر فالأول أن يتبع المأموم
فيه الإمام، وأن لا تتعدد الأئمة في مسجد واحد في وقت واحد لأجل الخلاف، نفعل
ما ثبت عنهم فعله، ونترك ما ثبت عنهم تركه، ونتخير فيما اختلف فيه النقل مع
الاحتياط وعدم الميل مع الهوى، ونسكت عما سكتوا عنه فلا نُجري فيه قياسًا، ولا
نُعمل فيه، رأيًا وكيف نزيد عليهم وهم خيار الأمة، وقد أحسن الإمام مالك وأصاب
في الاحتجاج بعمل أهل المدينة لعهده، وكذلك يعمل كل أحد بما صح عنده من
الأحاديث القولية، ولا يجعل ذلك مثارًا للخلاف في الدين؛ لأنه من قسم المخير فيه
ولو كان محتمًا لما ترك العمل به الصحابة والتابعون، ولو عملوا به لكان ثابتًا
بالعمل، وقد تقدم حكمه.
المقلد: إن عندي موعدًا قرب وقته، وأحب أن أنصرف الآن، وأعود غدًا
إن شاء الله تعالى. وانصرفا على ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))