للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طُرَف الأعراب ونوادرهم

أبو النجم الفضل بن قُدامة العجلي الراجز من فحول المتقدمين في الإسلام
يتمثل بكلامه وهو الذي يقول:
أنا أبو النجم وشعري شعري ... لله در ما يجن صدري
وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن، فقال له هشام: حدثني يا أبا
النجم. فقال: أعَنِّي أم عن غيري؟ فقال: بل عنك. فأنشأ يحدثه وهو يضحك
وصار يختلف إليه، وكان طرده هشام حين أنشده أرجوزته التي يمثلون في الكلام
على الفصاحة بمطلعها (الحمد لله العلي الأجلل) وفيه مخالفة القاعدة الصرفية في
الإدغام. وذلك أنه لما بلغ أطرف تشبيه فيها وهو (والشمس في الأفق كعين
الأحول) فطن قبل أن ينطق بالكلمة الأخيرة؛ لأن هشامًا كان أحول، فلم يقلها فلما
وقف، قال هشام: أجز. فقالها، فطرده.
وضاق صدر هشام في ليلة، فقال لأحد الخدم: اطلب لي محدثًا أعرابيًّا
شاعرًا، فخرج الخادم إلى المسجد، فإذا هو بأبي النجم وكان ينام فيه بعد طرده،
فضربه برجله وقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إنني أعرابي غريب. فقال:
إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فانطلق به حتى أدخله القصر،
وأغلق الباب، فظن أبو النجم الشر والانتقام، ثم مضى به فأدخله على هشام، فإذا
هو في بيت صغير، والشمع يزهر بين يديه، وإذا هو قد ضرب بينه وبين نسائه
سترًا رقيقًا، فلما رآه هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريد أمير المؤمنين.
فأذن له بالجلوس، وسأله عن منزله ومبيته مباسطة، ثم قال له: ما لك من الولد؟
قال: ثلاث بنات وبُني اسمه شيبان. فقال: هل أخرجت من بناتك أحدًا؟ قال:
نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما أوصيت به
الأولى؟ فقال:
أوصيت من (بَرَّة) قلبًا حُرَّا ... بالكلب خيرًا والحماة شرا
لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا ... حتى ترى حلو الحياة مرَّا
وإن كستك ذهبًا ودرَّا ... والحي عميهم بشر طرَّا
فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:
سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن دنت فازدلفي إليها
وأوجعي بالنهز ركبتيها ... ومرفقيها واضربي جنبيها
وظاهري النَّذر لها عليها ... لا تخبر الدهر بها ابنتيها [١]
فضحك هشام حتى سقط على قفاه وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه
السلام ولده. فقال: ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال:
قلت:
أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن تحمدك الأقارب
والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب
ولا تني أظفارك السلاهب ... لهن في وجه الحماة كاتب [٢]
والزوج إن الزوج بئس الصاحب ...
قال: وكيف قلت هذا ولم تتزوج؟ وأي شيء قلت في تأخر تزويجها؟ قال:
قلت:
كأن ظلاَّمة أخت شيبانْ ... يتيمة ووالداها حيانْ
الرأس قمل كله وصيبان ... وليس في الساقين إلا خيطان
تلك التي يفزع منها الشيطان ...
فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه، وأمر له بثلاثمائة دينار، وقال:
اجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.