للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجيوش الغربية المعنوية
في الفتوحات الشرقية [*]

الغرض من الفتوح والاستعمار تكثير المال وتنمية الثروة، والثروة أو المال
مبدأ الأعمال المدنية وغايتها، وبه تتألف مقدمات العمران، وتحصل نتيجتها، ولما
علم الغربيون أن الحروب تتلف الثروة، وقد يستوي في خسائرها الغالب والمغلوب،
عمدوا إلى الفتوح من طريق الكسب، والتغلب على الأمم بالقبض على أزمة
معايشها، وامتلاك نواصي مكاسبها، ثم بتقطيع روابطها، وإبطال الجوامع التي
تضمها وتجمعها، إلى أن يقضي التفرق على الأمة بقضائه الذي رددناه مرارًا،
وبمثل هذا التفرق يتسنى للعدد القليل الاستيلاء على شعب كبير وأمة عظيمة،
يصرف الرجل الواحد من الغالبين الأثابيّ والجموع، ويسوقهم حيث شاء، كما
يسوق الراعي الإبل والشاء، وقد يتراءى للغافل، ويخيل للغر الجاهل، أن حقيقة
هذا الأمر كما يعطيه ظاهره: تصريف واحد لثُبات، وسوق فرد لجماعات، وذلك
غير صحيح، بل هو مخالف لطبيعة الوجود. ومن نفذت أشعة بصره من ظواهر
الأشياء لبواطنها رأى أن ذلك الفرد في الحقيقة جمع، والواحد في نفس الأمر أمة،
وأن تلك الأثابي والجموع أفراد لا رابطة تربطهم، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى؛
ذلك بأنهم قوم لا يفقهون معنى القومية والأمية، فاجتماعهم وتفرقهم سواء، أما كون
هذه الجموع ليست أمة، فهو مما لا خفاء فيه كما ترى، إذا أهين أحدهم، بل إذا
سحقت عظامه بأيدي الغرباء يقولون: هذا بعض ما يستحق من الجزاء، وأما كون
تلك الآحاد التي يدير كل واحد منها شؤون جماعة أممًا، فمعناه: أن أحدهم يدير
الجماعة باسم أمته وبقوتها، وأن أمته كلها معضدة له في عمله وممدة له بقوتها
ونفوذها، بحيث تعز لعزته وتذل لذلته، فلو هضم جانبه أو غمط حقه تشعر الأمة
كلها بنفس الألم الذي شعر به، وتهب كلها لإزالته، كما هو شأن الأمم الغربية في
هذه الأيام: يهان أوروبي في أقصى المعمور، فتسمع الصياح والصراخ يدوي له
فضاء أوروبا والجرائد تنشئ الفصول الطوال تقول: قد أهينت الدولة والأمة
فأجمعوا كيدكم وألزموا الدولة التي أهانه أهلها بالترضية، إما منًّا بولاية من تلك
البلاد، وإما فداءً بمبلغ عظيم من المال.
بقي علينا البحث في هذا الفتوح المعنوي، وبيان القوى التي تسلطها الأمم
العاملة على الجاهلة فتقطع روابطها، والجيوش التي تحشرها وتسوقها لهدم جوامعها
مع سلامة أفرادها، وبقاء آحادها، وكيف تفتقر الأمم وتدمّر الممالك بهذه الجيوش
المعنوية، التي يقودها جماعة من أهل الوداعة والسكينة، ومحبي الأمن والسلام،
وهو بحث طويل الذيل نأتي منه على إجمال ينبئ عن تفصيل، فنقول:
علم الأوروبيون بما أفادهم البحث في طبائع الأمم أن الترف مدعاة الدمار
والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من أدوائه، وتعصم من بلائه،
وعلموا بالاختبار أن الشرق فقدت منه التربية، وانفصمت عُرَى الوحدة التي كانت
لأممه ودوله، ولم يبق لهم من روابط الاجتماع إلا بقايا موروثة، لا متعهد لها ولا
حافظ، فيكفي لتقطيعها جذبة لطيفة من جذبات الترف، فكرُّوا على الشرق بجنود
منه لا قبل لأهله بها، وحملوه أوزارًا أثقل من الجبال فحملها، وكان الشرق ظلومًا
جهولاً.
ساقوا عليه خمسة فيالق وهي: الخمر والميسر والربا والبغاء والتجارة،
فنسفوا بذلك ثروته، وقتلوا غيرته وأضعفوا همته، وأفسدوا ما كان من بقايا أدب
ودين، فتكت هذه الفيالق والجحافل في الأمم الشرقية فتكًا ذريعًا، وبلغت نكايتها
ومضرتها في هذه البلاد ما لم تبلغه في غيرها، ولو شئنا الشرح والتفصيل عن كل
فيلق من تلك الفيالق، وما كان عنه من السلب والنهب والخراب والتدمير لاحتجنا
إلى تصنيف الأسفار والدواوين، ولكننا نجمل في القول على ما شرطنا:
(الخمر) : أم الخبائث، وداعية الفجور، وموقظة الفتن، وآفة الثروة،
ومولدة الأمراض، ومقصرة الآجال، فمضرتها في الجسم والعقل، وإفسادها للدنيا
والدين مما لا يجهله أحد، وإنما يدمنها الفساق تغليبا للذة على المصلحة، وترجيحًا
للشهوة على المنفعة. إن مضرات السكر في هذا العصر تربي على مضرته في
العصور السالفة التي لعن الأنبياء فيها السكارى، وسجلوا عليهم الحرمان من ملكوت
السماء، فإن الأشربة الروحية التي اخترعها الإفرنج في هذا العصر هي أشد إتلافًا
للجسم والعقل والمال.
اجتمعتُ في أواخر سنة ١٣١٠ بالدكتور فانديك الشهير في بيروت، وتذاكرنا
في تقدم سوريا وبيروت وتأخرهما، لا سيما من جهة الأدب والتهذيب، فقال: أنا
أعرف بيروت من نحو ثلاثين سنة، وليس فيها إلا بعض حانات قليلة (نسيت العدد
الذي عينه ولا أراه يبلغ عدد الأنامل) يباع فيها خمر البلاد، وأما الآن فيوجد في
بيروت عشرات من الحانات، وياليتها تبيع من خمر البلاد القليل ضرره، المحدود
خطره، وإنما هي ملأى بهذه السموم الإفرنجية، التي يسمونها الأشربة الروحية،
وقد اتفقنا في المذاكرة إلى أن هذه السموم مميتة للآداب والفضائل، وموت الآداب
والفضائل موت للشعوب والقبائل.
إن مصر تفوق بيروت في هذه الرذيلة، بل تفوق جميع البلاد، تجول في
شوارع القاهرة وأسواقها، فلا يغيب عن نظرك مرأى الحانات دقيقة واحدة، حتى
يخيل للجائل أن هذه الحانات تزيد على حاجة السكان، ولو كانوا كلهم من السكارى،
وإنها تتمثل لعيني ناظرها كأنها ثكنات عساكرها القوارير المصفوفة المرتبة
ترتيب الجنود المنظمة، وقوادها الغيد والغادات من اليونان والتليان، وسائر
أصناف الإفرنج كلا إن القوارير أكثر للأرواح انتهابًا، وللأموال استلابًا، فربما
ينفق المصريون في يوم واحد على الخمور أكثر مما أنفقته الحكومة في حرب
السودان في بدايتها إلى الآن، فقد بلغنا أن من أمرائهم ومثريهم من ينفق في الليلة
الواحدة العشرات والمئات من الجنيهات على معاقرة الراح، ومنادمة الصباح،
ويوشك أن يمتص من الزجاجة مصة، ثم يلقيها جانبًا ويطلب أخرى، يرى الفَدْم
(البليد الأحمق) أن الشرف في معالجة المفدّمات (الدنان والأباريق) ، ومجالعة
الجالعات (الجالعة: المرأة التي تتبرج وتترك الحياء، والمجالعة المجاوبة بالفحش
أو التنازع في شراب أو قمار) ، لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم،
فأنفقوا أموالهم على تخريب بيوتهم وإتلاف أمتهم وتسليم بلادهم للأجانب، لا أعني
أنهم سلموهم أزمَّة سياستها، بل أريد رقبتها وجملتها.
(الميسر) : فشا القمار في البلاد الشرقية فشوًا خرب دورًا، وقوض صرحًا
وقصورًا، وأمسى أكثر مُزاوِليه قومًا بورًا. ولقد كان لأهل هذه الديار منه أوفر
السهام وأقتلها. سرت عدواه من الرجال إلى النساء، كما سرت عدوى سائر
الموبقات، لا سيما في الأمراء وأهل الطبقات الدنيوية العالية، ذلك أن الرجال
يجاهرون فيما يجترحونه من السيئات، وهم قدوة النساء وأسوتهم فيقلدْنَهم بجميع ما
يفعلون، فكيف حال الأبناء والبنات الذين يتولدون من هذه الأصول الخبيثة ويتربون
في أحضانهم النجسة. إلا أن حالة البلاد مظلمة، ومستقبلها أحلك ظلامًا وأعظم
خطرًا إن لم تُدارَكْ بتربية دينية شريفة.
كان من شأن النساء أن تحفظ المال وتدير شؤون العائلة على محور الاقتصاد،
وتدع الأعمال العامة مالية وغير مالية للرجال، لكن نساء كبرائنا شببن عن الطوق،
وتشبثن بأذيال من التمدن الأوروبي مسحوبة على أرض قذرة، تجر من تعلق بها
عليها، حتى يكون عبرة للناظرين. إن في المدنية الأوروبية من المحاسن والفضائل
ما هو أجدر باقتباس سيدات بلادنا له، لا سيما ما هو أليق بهن وأمس بوظيفتهن،
كتربية الأولاد وتدبير المنزل والاقتصاد، فما بالهن فضَّلن الخمر والميسر واخترن
ما يُشقي على ما يسعد، واستبدلن الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ! أما كفاهن ما
يقترفه رجالهن الأشرار، ويجترحه أولادهن الأغرار، من الإسراف والتبذير،
الذي ينتهي بالعائلات - بل وبالبلاد - إلى شر مصير.
(البغاء) : وما أدراك ما هو؟ ! ارتياد الفاحشة الكبرى، وتطلب النقيصة
السوأَى من جماعة من النساء يستعددن لذلك ويتجاهرن به. الزنا مولد الأدواء
المشوهة القاتلة، ومقلل النسل، ومضيع الأنساب، ومتلف الأموال، ومفسد نظام
العائلات، وإن المجاهرة به مدعاة لتعميمِهِ وتعميمُهُ فتنة في الأرض وفساد كبير،
وبلاء على الأمم وبيل، فشا في الأمة الفرنسوية وهي مفيضة العلم على أوروبا
وقدوتها في التربية العملية التي بها قوام المدنية، فصدمها صدمة وقفت بنموها،
وقللت رجالها، فقد كان متوسط المواليد فيها أوائل هذا القرن ٣٢ في الألف، فهبط
في بعض بلادهم إلى ١٤، وفي بعضها إلى ٢٢ في الألف، ولقد كان سكان أوروبا
يومئذ نحو مائة مليون، ربعهم من الفرنسويين، فزادت بروسيا في مدة القرن خمسة
أضعاف، وبريطانيا أربعة أضعاف، وروسيا ثلاثة أضعاف، وفرنسا ضعفًا واحدًا،
وأصبح أهل فرنسا عُشر أهل أوروبا، وسبب ذلك الأكبر فشوّ الزنا فيهم،
وساستهم الآن في حيرة من تلافيه.
هذا، وإن لهذه المصيبة من الضرر المالي في مثل هذه البلاد ما لا نظير له
في فرنسا، وذلك لأن معظم المال الذي ينفق على الفحش هنا إنما ينقصه الأجانب
من ثروة البلاد؛ لأن معظم المسافحات وذوات الأخدان فيها من الإفرنج، لا سيما
صواحب الأمراء والوجهاء اللواتي يفاض عليهن المال جزافًا بلا عدّ ولا كيل،
وبهذا المعنى نعد البغايا والمومسات من الجند الفاتح للبلاد، فإنهن ما نزلن في
عراص قوام إلا مهدن لأبناء جنسهن فيها المقام، وأورثنهم أرضهم وديارهم وأموالهم
وشاهد ذلك بين يدينا وتحت مواقع أبصارنا، فعلى من ابتلي بذلك أن يقلع حفظًا
لدينه ودنياه، وإن كان استحوذ عليه الشيطان وملك عليه أمره فليستتر، لا سيما عن
أهله وبنيه؛ لئلا يجني عليهم فيفسدهم، كما فسد ويضيع الأمل من مستقبل البلاد
بهم، وليحجبهم ويمنعهم من قرناء السوء أمثاله، ولا يأتمن عليهم الخدم، فإنهم في
الغالب على دينه ومشربه الخبيث، ولقد بلغنا أن هؤلاء الخدم يغشون مواخير
المومسات ومعهم الأولاد الصغار الذين عُهد إليهم بخدمتهم، فيتربون على مشاهدة
الفاحشة وبئست التربية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: ٦) .
(الربا) : هو الآفة المجتاحة للثمار، والمخربة للديار، التي جعلت الأغنياء
فقراء، والأعزاء أذلاء، هو الذي مكن للأوروبيين في أرض مصر (كغيرها من
ممالك الشرق) ، فاستولى دائنوهم على صفاصفها (أرضها السهلة المستوية)
وأثباجها (ترعها) ، وساستهم على إتاوتها وخراجها، ثم على سائر دوائر الإدارات،
حتى أوشكت تكون بلادًا أوروبية حاكمًا ومحكومًا. ضغط الربا على جثمان هذه
البلاد رويدًا رويدًا، حتى اشتبكت الأضلاع بالأضلاع، واختلط اللحم بالعظم، وما
شعرت حكومتها بضغط، ولا أحست أفرادها بألم، حتى سحق الضغط كلًّا من
الحاكم والمحكوم، ما أُكل الربا أضعافًا مضاعفة في بلاد كهذه البلاد، وما أضر بقوم
كما أضر بأهلها، ظلم حكامها رعيتهم، فألجئوهم إلى الاستدانة بالربا الفاحش، ومَن
ظلم رعيته كان لنفسه أظلم.
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: ٢١) . {وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: ١٠٢) .
(التجارة) : لقد علم الأوروبيون أن حرب الدراهم والدنانير أنجح من حرب
المدافع والبواريد، وقد امتلكوا بهذه الحروب الذهبية والفضية أكثر بلاد الشرق،
فالإنكليز ما استولوا على ممالك الهند بتكتيب الكتائب، وسوق الأساطيل بالفيالق
والجحافل، وإنما هي جمعية تجارية وطَّأت المسالك، ومهدت السبل، تظلها السلطة
ويؤيدها النفوذ اللذان يقيمان حيث تقيم، وكذلك كان شأن شركة النيجر في أحشاء
إفريقية، واليوم يُنعم الإنكليز على الحكومة المصرية بثمانمائة ألف جنيه ونيّف؛
لافتتاح السودان، وتصرح وزارتهم بأن الإنصاف يقضي عليهم بمساعدة مصر
بالإنفاق على فتح السودان؛ لأنها شريكتها بفوائده التجارية ومعناه لِأَنْ تستأثر
بالتجارة وتختص دون أوروبا بهذا الفتوح المعنوي الذي يتبعه التملك اسمًا ومعنى،
كما هو المعهود في الهند والنيجر وغيرهما، ومعلوم أن الحكومة المصرية لا تجارة
لها، وبهذا يحتج عليها المحتلون في إجبارها على بيع سكك حديد السودان بعد الفتح.
يقولون: إن فائدتها العسكرية تنتهي بالفتح، والحكومة المصرية لا تجارة لها،
ولا يليق بها التجارة، فمن المصلحة أن تباع هذه السكك لشركة تجارية، ويرجح
الإنكليز على سائر الأجانب؛ لما أنفقوا من أموالهم، وما أزهقوا من رجالهم،
والحمد لله لا شركات وطنية لنا فنقول: إنها أحق بالتقدم حتى على الإنكليز.
ابتاع أخوان من الفلاحين عدة من الدجاج (الفراخ) لأجل تربيتها والانتفاع
ببيضها، وكان أحدهما ذكيًّا، والآخر بليدًا مغفلاً، فقال الذكي للبليد: تعالَ نقتسم،
واتفقا في القسمة على أن تكون الدجاجات للبليد وبيوضها لأخيه، فكان هو يتعاهدها
بالأكل والشرب والمبيت، وينفق عليها ويخلي بين أخيه وبين بيوضها، يبيعها
ويأكل منها ما شاء، وصار الأخوان مثلاً في بلدهما في تلك القسمة الضِّيزَى.
كذلك شأن الإنكليز مع الحكومة المصرية في السودان وشأن سائر الأوروبيين
في فتوحاتهم المعنوية، يقنعون بامتلاك المنافع وثمرات البلاد، ويدعون الاسم
لأهلها، ولكن إلى أجل مسمى، حتى إذا ما جاء الأجل يصرحون بالامتلاك الاسمي
أيضًا.
كل هذا والشرقيون وادعون ساكنون، وإذا تحركوا فإنما تكون حركتهم ميلاً
مع ريح الأجانب، انخداعًا لها أو رهبةً منها، لاندهاشهم بعظمتها التي ما جاءتها إلا
من الشركات المالية، وهي أيسر شيء عليهم، لا سيما قبل تمكُّن الأجانب من
بلادهم. لو أن للشرقيين عقولاً ذكية، وتربية وطنية لَمَا رضوا أن تكون بلادهم بينهم
وبين الأجانب كالدجاجات بين ذينك الأخوين - فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ -
ولقاوموا جنود التجارة الفاتحة أشد المقاومة.
اندفع الغرب على الشرق بخميس من الأزياء، وكتائب من الحلي، وجحافل
من الماعون النفيس، وفيالق من اللذائذ، فلم تَجِدْ هذه الجنود المجندة من الشرق أقل
مقاومة، ولا أدنى مدافعة، فطفقت تفتك في النفوس بعوامل الترف، وفي الأموال
بعوامل السرف، ومازال القوم يعدون هذه العوامل من علائم الشرف، حتى وقفت
بهم على شفا جرف وأكبتهم على مناخرهم في مهاوي التلف.
لا ننكر أن من هذه الجنود ما لا قِبَلَ لنا بدفعه الآن، كالضروري من الأدوات
والماعون والنسيج، وكلامنا إنما هو في الزخارف الكمالية، كالحلي وماعون الزينة
ومادة الترف من الأشربة وغيرها، فهذه هي التي تنسف ثروة البلاد وترميها بالفقر
والعجز. فرُبَّ ملك أو أمير (برنس) ينفق على الترف والبذخ ما يكفي لإنشاء
مدارس أو معامل يحيي بها صقعًا من الأصقاع، أو إقليمًا من الأقاليم (كمديرية أو
متصرّفية) ، يتنافس الأمراء وسائر أهل الثراء بتقليد الإفرنج في كل طراز
وإنما يتنافسون في خراب بلادهم، فإن تطرّز الإفرنج وتورّنهم وتماديهم في الترف -
كل ذلك يزيد في إحياء صنائعهم ونموها وكمالها، ولا تتحول به أثباج ثروتهم
ومجاريها إلى غير بلادهم، بل تبقى دائرة فيها، ومع ذلك يتحامون الإسراف في
الترف، ويسيرون فيه على أصول التدبير والاقتصاد، فلا ينغمسون فيه كأمرائنا
انغماسًا ينتهي بالغرق، ويتلافون مضراته الروحية والجسدية من ضعف الأبدان
وقعود الهمم عن الأعمال العظيمة بالتربية الصحيحة التي رأينا من آثارها أن
أبناء الملوك والوزراء يزاولون الأعمال العسكرية والمدنية بأيديهم، سواء كان ذلك
في البر أو البحر، بل رأينا أن الجنس اللطيف آب (تهيأ) لمساهمة الجنس النشيط
في الأعمال الشاقة، حتى طلب بعضهن الانتظام في سلك الجندية والقيام بالأعمال
الحربية، وهذا هو معنى قولنا في أوائل هذه المقالة: (إن الترف مدعاة الدمار
والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة، تقي من أدوائه وتعصم من
بلائه) .
فعسى أن يتنبه الشرقيون لما ذكرنا، فيحترزون من مضار الترف وتقليد
الإفرنج بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالدمار، ويجتهدون بتربية أولادهم تربية دينية
وطنية، لعلهم يستردون ما فقدوا، ويسترجعون ما سُلبوا، وما ذلك على الله بعزيز.