للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الواسطة والزيارة
أو ابن تيمية والسبكي

من المؤلفين مَنْ حظه كثرة النقول، وإن خالفت المعقول، وإرضاء العوام
ولو بما يضر الأنام، ومن الناس من يتحرى الهداية والإرشاد، وإن استُهدف لسهام
الانتقاد، وما تفرد أحد بالإمامة في عصر، وبرز على العلماء في قرية أو مصر،
إلا سلَّط عليه الحاسدون، وطعن فيه المعاصرون، ولقد كان الإمام أحمد بن تيمية
في عصره ناصر السُّنة، وخاذل البدعة، والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد
المجتهدين، وكان جرَّد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف، لا
سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين، فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون
معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله،
ومضى الزمان على ذلك.
وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ
بطبع رسالة (الواسطة) التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم
في طلب حاجاتهم للذي فطر السموات والأرض، وأن لا يعبدوا غيره ولا يستعينوا
فيما وراء الأسباب التي سنها لهم إلا به، وأن لا يتخذوا غير دينه واسطة بينهم
وبينه؛ لأنه تعالى - كما قال - أقرب إليهم من حبل الوريد.
فرأى بعض المشايخ الذين يحبون الشهرة عند العوام، ويرون لهم في ذلك
منفعة وجاهًا أن ينتصر لهم فيما يأتونه في الأضرحة من البدع والمنكرات وطلب
الحاجات من غير الله تعالى بالرد على الإمام ابن تيمية، فسعى بنشر عدة رسائل
إحداها منسوبة للقاضي تقي الدين السبكي الشافعي الشهير، وكتب مقدمة لهذه
الرسائل جاء فيها بالتناقض، وأقام الحجة على نفسه فكان قاضيًا حكم على كلامه
وكلام السبكي بالإبطال، من حيث لم يفهم إلا أن يكون أراد أن يدلس على الناس
بالتمويه، وافتتح المقدمة بتشبيه مشهور انتحله لنفسه والأرجح أنه لم يفهمه؛ لأنه
استعمله في غير موضعه.
أما تناقضه وتهافته فهو أنه ذكر أولاً أنه لا شفاء لأحد من الأمراض الروحية
ولا سعادة له إلا باستعمال أدوية الدين، وهي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان
عليه السلف الصالح، وهذا ما يدعو إليه الإمام ابن تيمية ومن على شاكلته من أهل
الهدى، ثم أنشأ بعد هذا التمهيد يثبت لأجل الرد على ابن تيمية أن بين العباد وبين
ربهم واسطة تحجبهم عنه، ولا يمكن الوصول إلى مرضاته إلا بها وهي غير دينه
الذي شرعه لهداية الناس، ولما لم يجد لهذا دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا هدي
الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين حاول أن يثبته بالاحتمالات الخيالية، كاحتمال
أن لأرواح الأموات تأثيرًا وإمدادًا كما يقول بعض الفلاسفة، وذكر بعض كلمات من
شرح قصيدة ابن سينا الفيلسوف ومن غيرها، وحسب صاحب هذه المقدمة أنه
يدعو إلى كتاب مملوء بالموضوعات، أي بالكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن كان لم يقرأه فهو شاهد زور، وإلا فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع.
قال في الاستدلال على انتفاع العامة بالقبور والأضرحة: إن الإنسان يتأثر
بتصوراته. وهذا صحيح ولكن هذا التأثر وهمي يحصل للمعتقد بالشيء ولو كان
صنمًا، وينقل مثله عن عوام سائر الملل فهل يكون قوله هذا حجة على أن دين
الإسلام بنى عقائده وعباداته على أسس الأوهام؟ وزعم أن العامي لا يعتقد أن الولي
يؤثر أو ينفع؛ وإنما يعتقد أنه يدعو إلى الله تعالى معه فيكون الدعاء أرجى للقبول
وهذا الزعم منقوض بما يشاهد من العوام من طلب الحوائج من الجمادات، كباب
المتولي ونعل الكلشني وشجرة الحنفي وشجرات الست المنضورة التي تحبل العاقر
وغير ذلك، وجعلوا لكل ولي وظيفة: فبعضهم يشفي الأمراض المزمنة، وبعضهم
يشفي الرمد الحاد، وبعضهم يرد الأطفال التائهين إلى غير ذلك، على أن رسائله التي
نشرها لإرشاد المسلمين تصرِّح بأن الله وكل بقبور الأولياء ملائكة تقضي حاجات
زائريها، وأن بعضهم يخرج من قبره فيقضي الحاجة بنفسه، وهذا شيء لا يُعلم إلا
من الوحي، ولم يرد به كتاب منير ولا سنة صحيحة، وسنعود إلى تتمة الانتقاد.
((يتبع بمقال تالٍ))